قبل ما يربو على العام كتبت مقالاً في جريدة الوطن يحمل تساؤلاً- لم يحظ طبعاً بإجابة كالعادة - عمّن يملك القرار بمنع الشباب" العزاب" من حقهم في التسوق وشراء مستلزماتهم كشباب بلدان الأرض قاطبة، وما مسوغ ذلك المنع التسوقي الطبيعي ؟!، وفضلاً على أن جهة ما لم تكلف نفسها عناء الرد على السؤال الأصلي"حق المنع وجهته" أو الرديف "سبب المنع" فإنني تمنيت من أحد مشرعيّ الحقوق مراجعة أو حتى محاولة التساؤل عن الأمر الممنوع؛ منشأه، سببه، أحقيته، لكن أمنيتي ذهبت أدراج الرياح مع سؤالي بفرعيه" الأصل والرديف"، واستمر الحال على "طمام المرحوم" على رأي المثل الشعبي حتى فوجئنا بقرار مَنْع المنع، وفتح أبواب الأسواق للشباب ليعاملوا كغيرهم من شباب المعمورة سواء بسواء، فتملكت الجميعَ دهشةُ التغيير المفاجئ، وعلى رغمها لم تنسنا أن نحمد الله على القرار، ونرسل تهنئة مزجاة بالفرح لإخواننا الشباب العزاب بعودة حقهم إليهم. لا حدّ لهوس تقييد الحريات لأنه منع للحريات برغبة توسعية، فالتصرف حيال الأخلاق باعتقال أفرادها المسبق يعتبر ردة في مفاهيم الأخلاق، وتوهماً للشر دون الوقوع فيه، ومصادمة بداهية لحق الإنسان في أن يكون سيد جسمه وقلبه ويده ولسانه. تغيرَ الحال لنقيضه وبقيت أسئلتي قيد المجهول، فقرار منع الشباب من الأسواق تنصّل الجميعُ من مسؤوليته، فليس قرار إمارة الرياض، ولا قرار هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم تعلن أي جهة مسؤوليتها عنه، والأعجب من التنصل طرحه على ملاّك الأسواق والمجمعات التجارية!، فكيف نستطيع استيعاب حق تشريع أمر تنظيمي أو سن قانون مجتمعي لملاك أسواق ربحية يفترض أن تكون فئة الشباب ضمن الفئات المربحة لهم !، وبأي حق اكتسب هؤلاء التجار حقاً ليس من حقهم" حق القبض على حريات الأفراد ومنعهم من التسوق"، والحقيقة أن القرار لازال مجهول المصدر والسبب الحقيقيين إلى الآن، ورغم حجته المعدومة التي جعلت المسؤولية متقاذفة فقد اكتسب قوة العمل به لعقود طويلة، وهذا للأسف دليل عشوائية وتخبط تنظيمي، وجهل وخنوع حقوقي، وإلا فكيف لقرار لايمت لجهة تشريعية أن يحمل كل هذا الإلزام القهري لمرحلة زمنية طويلة دون أن تتساءل جهات التشريع الحقيقية أو الفئة المتضررة منه عن أصله ومنشئه،ولماذا، وكيف، وكل أسئلة العقل المشروعة تجاه أي أمر ممنوع، وكيف يتم التمشي بموجب قرار سرّي المصدر، معدوم السبب، بدون أن يثير حفيظة أحدٍ ما في جميع مناطق مملكتنا الشاسعة؟! ولعلمي المسبق على أسئلتي بأنها لن تحظى بإجابة شافية من أحد، فقد حوّلتُ جهدي إلى وجهة حقوقية للبحث خلف سبب منع إنسان من ممارسة حقه الطبيعي في التسوق لمجرد احتمال ارتكابه خطأ أخلاقياً، مستعينة لذلك بالولوج لمجال وهم الخصوصية العام، لعلي أجد مبرراً لصرف امرئٍ عن حقه الطبيعي لاحتمال قد لا يقع، فكان التوصل للقاعدة المانعة الجامعة للممنوعات "قاعدة سد الذرائع"، القاعدة التي تجاوزت ماخلقت له إلى مالا يجوز أن يمر بجانبها لبعده عنها نهجاً وفكراً، كالأمر الحلال في أصله، والتي أصبحت تمارس جنون التعدي على حق الفرد الخاص لأجل توهم انتهاك فضيلة قد - وهو الغالب- لا يقع، وهو لا يقع فعلاً في مجتمعات التنظيم القانوني التي ترقى بالإنسان في منازل الوعي بأخيه الإنسان فتعوّده على احترام حريات الآخرين كما يحب لحريته أن تحترم، فتنشأ مقابل ذلك نفوس مدرّبة على تربية نفسها واحترام غيرها في كل ميدان، في المنزل في الشارع في مقاعد الدراسة في أماكن العمل وغيرها من ميادين الالتقاء بالغير،! بدون أن تلجأ لمنع طبيعة الالتقاء، بل تردع من اجترح حق الأخلاق الفاضلة في ميدان التلاقي بقانون واضح يدعى" قانون التحرش" يطبق بحق كل معتدٍ أثيم. المشكلة لدينا أن الخصوصية خلقت فينا وهماً لم يعد يصدّقه سوانا، ولا يصْدُقُ على أحدٍ سوانا، فشبابنا يسافرون لكافة بلدان العالم يدخلون أسواقها ويتبضعون منها، ويرتادون دور السينما فيها، ثم يعودون بلا أي مشاكل، لكن الخصوصية وهم كبير ينشر الأكاذيب الملفقة على مستوى الأخلاق ليصيبنا بانفصام واقعي يصورنا داخل بلادنا بوجه منتهِك وخارجه بآخر ملتزِم، ونمضي مع الوهم تجمعنا صفة الصمت المخادع المؤدلج والمستسلم! لا ريب أن القرارات التي تعدم أجواء الحرية تستوجب التقييد دائما وتتصف بالضبط الجماعي، الذي لا يفرق بين صالح وطالح، مؤمنة بالعقاب الاحترازي الجماعي الذي ينظر للجميع بأنهم متهمون حتى تثبت براءتهم، وبهذه الطريقة المنتهكة للحق الفرداني، تتجاوز- برغبتها القبض على الفضيلة - بقبضها على رقاب العباد كحل شمولي مغرق في وهم فضيلة مستبدة تستمد قوة عنجهيتها بسدود المنع المتعدي، ودرء حريات الأفراد. لا حدّ لهوس تقييد الحريات لأنه منع للحريات برغبة توسعية، فالتصرف حيال الأخلاق باعتقال أفرادها المسبق يعتبر ردة في مفاهيم الأخلاق،وتوهماً للشر دون الوقوع فيه، ومصادمة بداهية لحق الإنسان في أن يكون سيد جسمه وقلبه ويده ولسانه، والاعتراف بخطأ الوضع السابق والرغبة في مزيد تقدم بناء يعالج الأخطاء المشابهة يتطلب أن تخلق القوانين في ظل قداسة الحرية، فلا يصح أن تهدَر الحياة في مآقي ونفوس وقلوب الشباب التائقة لحرية الذات ومسؤولية الضمير، لأجل وهم يظن وقوعه، فيصدر بخوفه عقاب جماعي شمولي.! الحرية هي أم القيم، ولا خوف على تقديمها، فكلما علق الأمر في التنظيم مع حرية الأفراد فلا بد أن تقدم الحريات على المنع وإلا سنستمر نستيقظ على قرارات التخبط العشوائية المجهولة المصدر، فالحرية ليست ذنباً لنصادرها بل هي سر الحياة وعماد المسؤولية، ومستودع الضمير، ولن ترجى فضيلة بتقييد الحرية، فالفضيلة لا تنشأ في ظل القيود، بل تسبر قناعات فضائلها في ظل الانفتاح والأجواء الحرة، الأجواء التي يملك المرء فيها خيار التبني أو الامتناع، بالفعل أو الترك، فالطريق المفتوح لا يحملك فوقه بل يدعوك إلى المشي فيه، ونحن نستطيع أن نبدأ بالمشي، لأننا ببساطة لسنا بدعاً من البشر، لنستوحش ببغينا على أنفسنا، ونتوحش ابتعاداً عمن سوانا! لذا نحن بحاجة لتعميق الوعي بأزمتنا خاصة في المسائل الأخلاقية المتصلة بعلاقة الرجل بالمرأة، والإفاقة من وعي تم تزييفه بتبريرات هيمن عليها الفهم التأثيمي، وسنُّ ما لم يُسن كباعث على التأثيم وانسياق لأوهام التوخي والاحتياط، بإضفاء طابع استبدادي على الأفراد، يحول دون الإنسان وتحقيق شوقه الدّفين إلى الحرية والكرامة، فالوعي الحقيقي بالأزمة أول خطوة في طريق التصحيح الصادق. بنظرة عابرة لانعكاس خبر فتح أبواب الأسواق للشباب في إعلامنا نلحظ التردد في قبول الأمر، وهو أمر لا غرابة فيه، كون المعرفة تتشكل عن طريق التشبع بالجو الذي تنشره التصورات القائمة، أي بفعل ظروف الحياة أكثر منها بفعل اكتساب المعارف، لذا لا نستغرب أن تطالعنا بعض عناوين الصحف بالتالي: "مجمعات تجارية تفتح أبوابها للعزاب وأخرى توصدها" هذا الخوف من الخروج من مأزق الحقوق المستمرئ بتعديه يلزم بعض الوقت للاستيعاب، فيفضل أهل الاتباع الانتقال عنه تقليداً بالتبعية، لا استيعاباً؛ معرفياً أو حقوقياً. ويأتي التأكيد على الخبر بتكثيف تواجد حرس الأمن في المجمعات لمنع أي مضايقات للعائلات، فيما عمدت بعض المراكز التجارية إلى توظيف عدد من رجال الأمن في المجمعات التجارية يرتدون الزي العادي لمراقبة سلوك المتسوقين وضبط الأمن " وكأن التجسس يخلق فضيلة؟! ولكن لاعجب فالفضيلة لدينا تنشد بطريقين لا ثالث لهما: التعدي على الحريات الخاصة، وفرض الجاسوسية ! وخبر آخر يقول: "أوضح أحد العاملين في مول تجاري، أن المجمع فتح أبوابه أمام العزّاب بدءاً من أمس، ولم يسجل رجال الأمن أي إشكاليات إلى الآن" الخبر يكنّي خلفه سلطة الوهم، فيظن أهله أن هناك إشكاليات ستحدث، وعندما لا يجدها يسجلها كغرابة، الوضع الطبيعي دائماً لا يحتاج لإشارة، ولاتوقّع الخوف منه لا الآن ولا بعد الآن. ويتسلط الوهم بوضوحه في هذا الخبر : "ورأى موظف أمن في مجمع الفيصلية: أن دخول العزّاب إلى المجمعات التجارية سينعكس سلباً على الزائرين من العائلات الذين يتخوفون من المضايقات." التخوف، وليس وقوع المضايقات، يفرضه العقاب الاحترازي الجماعي، إذ أين المنطق في منع إنسان حقه لاحتمال أنه ربما يسيء استخدامه؟ ولماذا لا يكون الجزاء للتعدي لا مجرد توقعه أو توهمه. وأخيرا لنستقِ من عبير الفلاسفة رحيق حق: يطلق الفيلسوف كيركيغارد عبارة "الجمهور عدو الحقيقة"، إذ يعتقد بأن أكثر الناس يكتفون بأن يلعبوا الحياة، دون أن يطرحوا على أنفسهم أي سؤال". ولتجنب مايحذر كيركيغارد منه فعلينا أن نعي أن التطور كما يتطلب الخطوة الجريئة للتغيير يبحث في إشكالية معرفة أسباب التعطيل بالبحث المتأمل العميق، كي يكون التجاوز مرحلة وعي تصحيح يمارس التعديل، ويحث على تخطي جذور المشاكل الأساسية، وكما يرى هيغل أن للتاريخ هدفاً واحداً انه يتجاوز نفسه، فإنني أتمنى أن نتجاوز مرحلة تزييف الوعي الذي يمارسه الغوغائيون بربط الحرية بالرذيلة، بزيادة تعميق الوعي بأهمية العلاقة الطبيعية بين المرأة والرجل التي تفرض احترامها بالسلوك التربوي القويم، لا بالمنع المحتاط بسدود الارتياب المَهين.