في كتابها الجديد «سيرة الحبايب» تعقد الكاتبة المصرية سناء البيسي فصلاً حول الشاعر الكبير الراحل كامل الشناوي صاحب أشهر قصيدة عن الخائنات في الغناء العربي المعاصر: «لا تكذبي إني رأيتكما معاً».. وهي القصيدة التي يغنيها كل من محمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ ونجاة الصغيرة.. والواقع أن كامل الشناوي لم يكن مجرد شاعر وإنما كان ظاهرة من ظواهر الحياة الثقافية المصرية. شاعر يحب الغانيات والجميلات كما يحب الحياة بوجه عام، وهوايته حبك المقالب لا يوفر أحداً منها.. وقد بدأت علاقته باكراً بالأدب والشعر عندما بات تلميذاً وصديقاً ونديماً لأمير الشعراء شوقي وهو في بداية العشرينيات من عمره. كان الشناوي من رواد «كرمة ابن هانئ» دارة شوقي على النيل في الجيزة. وكان شوقي يحلو له سماع قصائده بصوت كامل المتهدج الفخم. كما كان موضع أسرار أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد. وقد اقترح يوماً على توفيق الحكيم أن يقوم بتأليف دراسة عن آثاره يسميها «توفيق الحكيم بقلم توفيق الحكيم». ولكن الحكيم لم يتحمس للاقتراح واكتفى بقوله: «أقوم ذلك بعد طه والعقاد». ويسأل كامل الشناوي العقاد: هل أصيبت مي بالجنون؟ فيجيب العقاد: هذا سؤال غاية في الصعوبة. فلم تكن مي مجنونة، لكن أعصابها انهارت نتيجة شعورها بالاضطهاد والوحدة وتنكر الأصدقاء! ومع أنه كان شاعراً إلا أنه لم يسلم من الفلسفة. فهجر الأصدقاء، واحياناً خيانتهم، يبدو أن الشناوي عانى منهما، ومن وحيهما كتب مرة: «كلما ضاع مني صديق أبكي عليه كما لو كان فارق الحياة وأدفنه في قلبي. واليوم وضعت يدي على صدري فخيل إلي أنه مقبرة تضم مئات من الأضرحة»! وترسم له سناء البيسي «البورترية» الثالثة: كان كل شيء عنده كثيراً بالزيادة: البدانة، الفن، الأصحاب، الظرف والجود والعشق والشعر والحضور والسهر والحزن والضحك والولاعات والكرافاتات والإحباط والدمع.. وقليله كان النوم والمال والكتب. ومن لم يعرفه عن قرب فاته الكثير من الحب والأدب رغم أنه حمل أبناء جيل كامل من الموهوبين إلى مدار في السماء حول كوكب الصحافة فلا زهق ولا مل ولا امتن على أحد. رغم أنه كان بهجة الليالي وآخر الظرفاء في مصر. وكان له كلام جميل في الحب: «يا حبيبتي حسبي من الوصل أني بالأماني ألقاك حيناً فحينا».. توفيق الحكيم مرهف رومانسي غنّى أشعاره عبدالوهاب وفريد ونجاة وحليم، وتنازل للحبيبة عن قلبه عن طيب خاطر: «إنها تحتل قلبي وتتصرف فيه كما لو كان بيتها تكنسه وتمسحه وتعيد ترتيب الأثاث وتقابل فيه كل الناس، وتهرب من شخص واحد، وهذا الشخص هو صاحب البيت»! صاحب الشعر الرقيق الذي يضجّ بالهوى والجوى والخيانة، وبطل سيرة الحياة العجيبة التي تقلب في دروبها بين عوالم الصحافة وكواليس السياسة، وبدّد معظم أيامها في تذوق مباهج الليل وارتشاف رحيق العشق العذري والهروب الدائم من مطاردات الأجل والوحدة والموت. وقد سار وحده شريداً محطم الخطوات تهزه أنفاسه، وقد مزّق بعضه بعضاً والذي عندما كان يكلم حبيبته بالتلفون يسمعها بروحه ويصافحها بخياله ويراها بأذنه. وهو الذي نهر قلبه قائلاً له: احتشم يا قلب فالحب طيش وشباب، وأنت طيش فقط! بسمة على ثغر الحياة اشتهر بمقالبه التي جابت الآفاق وكانت أم كثلوم صديقة قريبة منه ومشهورة بالمقالب مثله. وقد أرادت أن تداعبه يوماً في جلسة جمعتهما بعبدالوهاب وتوفيق الحكيم ونجمة السينما كاميليا التي أحبها الشناوي إلى حدّ التدلّه. تقول له أم كلثوم: أنت يا كامل تتحيز لكاميليا صحفياً، لكن! ويقاطعها كامل: نعم أنا متحيز لها.. وتعود أم كلثوم لتكمل: إذا كان هذا صحيحاً فقل فيها شعراً! وتدخل عبدالوهاب لقول: أنا مستعد أن ألحن هذا الشعر في الحال! وتقول أم كلثوم: وأنا سأغنيه فوراً.. ولم يجد كامل مفراً من الانتحاء جانباً لينظم ما يلي: لست أقوى على هواك وما لي أمل فيك فارفقي بخيالي إن بعض الجمال يُذهب قلبي عن ضلوعي، فكيف كل الجمال؟ ويلحن عبدالوهاب ما نظمه الشناوي وتغنيه أم كثلوم ويستعيده الحاضرون حتى الصباح. ولأن كاميليا لم تكن تفهم العربية الفصحى فقد جلس توفيق الحكيم بالقرب منها ليتولى ترجمة الكلمات إلى الفرنسية التي كانت تجيدها.. ومن طريف ما كتبه مرة قصيدة حول فتاة كان يفكر بالزواج منها ولكن المشروع انتكس. ومن هذه القصيدة أبيات جاء في شطر منها على لسان الحبيبة التي كانت قد تزوجت من سواه: لا تُثر حولي ضجة فلقد أصبحتُ زوجة! ويقول شقيقه الشاعر مأمون الشناوي إن كامل أحب نور الهدى وفنانة لبنانية في صالة بديعة مهابني تُدعى روز عازوري شاركه التابعي في حبها. ومن حبيباته اللواتي ودّعنه حتى المقبرة، وبكت طوال مشهد سير الجنازة في مسجد عمر مكرم حتى المدافن شاعرة اسمها لورا الأسيوطي. وقد لفت أصدقاءه المقربين بعدما نُقل في صباح ممطر من شهر نوفمبر 1965م إلى مستشفى الكاتب وهو في غيبوبة كاملة أنه لم يكن بجواره سوى شابة حسناء في الخامسة عشرة طالبة في أول سنة جامعة لم تترك يده الذاهلة بين يديها الحانيتين، بينما دموعها تفصح عن مشاعر قلب بريء هزّته الفاجعة! ومن أطرف ما في المقال أن كامل الشناوي الذي كان مكتبه على الدوام منتدى لمشاهير رجال السياسة والأحزاب، وقع عليه الاختيار عام 1951م (قبل عام من نشوب ثورة يوليو) ضمن عشرين صحفياً للإنعام عليهم بالرتب والألقاب، حيث أنعم عليه الملك فاروق بلقب بك، يومها ذهب إلى مقهى الأنجلو ليهتف بصوت عالٍ: «وسّعْ يا فندي إنت وهوّ لسعادة البيه».. البك الصحفي الذي كان بداية مشواره في مهنة البحث عن الهلاك والمرض والهموم في جريدة «كوكب الشرق» عام 1930م، بعدها اختاره الدكتور طه حسين للعمل معه في جريدة «الوادي»، ثم محرراً في الأهرام عام 1935م، وأصبح بعد ذلك رئيساً لتحرير «الأخبار» بعد صدورها عام 1952م. كامل الشناوي