الراحل كامل الشناوي,كاتب وشاعر رقيق المشاعر, صاغ لنا " فن" القصيدة والمقالة في آن ,إناء ينضح بالعذوبة والجمال ,كان لا يكفيه نبض الشعر الذي يقوله ,بل يحب أن ينتقل نبضه إلى قلوب الآخرين فبشعره يغني ويبكي ويرقص بصدق موسيقي, مترنما في أعذب الكلمات مابين القصيدة والمقالة , بشعره ملتزم بإنسانيته ونبضات قلبه00 مثلما هو التزامه بحماسه الصادق بمقالاته الساخرة!! هذا الشاعر الضخم يحمل بين جوانحه قلباً ذا عاطفة صادقة في كل مايكتبه من شعر,كان يضحك دائما ويطلق النكات على أصدقائه حتى أصبحوا يطلقون عليه الشاعر الساخر! فقد كانت سخريته حديث أصدقائه ومحبيه وتشيع الفرحة والبهجة في قلوب جلسائه من الوسط الثقافي الذي كان يعيش فيه0 كامل الشناوي00الشاعر الملهم كانت القصيدة عصية المنال عليه عند كتابتها ولكنه سرعان ما يطوعها وتستحوذ على كل مشاعره, فعندما يفرغ من كتابة قصيدته يحس أنها هي التي اختطفته وليس هو الذي فك رموزها فأصبحت طوع بنانه0 فكل قصيدة يكتبها يعتبرها قصة حب جديدة, فتلمس من صدق عاطفته طهارة الإنسانية وكرامته00فهو كريم بماله بخيل بكرامته ,ينفق كل مرتبه الشهري ويستدين على مرتبه لكي ينفق, ولكنه لايمكن أن يتنازل عن المس بكرامته, حتى ولو كانت حبيبته, فهو يعتبر كرامة الإنسان فوق كل مكان وزمان, ويمقت بشدة امتهان كرامة أي كان من الناس0 فكان من أبرز صفات كامل الشناوي, خفة دمه وبشاشته وقد أشتهر بمرحه ودعابته وسخريته اللاذعة , وسرعة بديهته في نظم الشعر,شاعرا وكاتبا وصحفيا,ولكنه كسول في كل ذلك,فهو المقل في الكتابة والشعر,والعشق كان يأخذه إلى عالم آخر , وإن حزن فلديه من الخيال والموهبة والقدرة ما يمكنه أن يكون من أعظم شعراء عصره000كامل الشناوي, كانت هوايته احتضان المواهب الجديدة وتشجيعها والأخذ بيدها إلى الأمام, ويتحمس لها ويكثر من الإشادة بها, فقد كانت له وقفات مشهودة مع الفنان عبد الحليم حافظ والموسيقار بليغ حمدي, وغيرهم الكثير0 محب للجمال في الطبيعة والفن والأخلاق والمرأة00وإن كانت الأخيرة قد أصابته في مقتل ,وقد كتب قصيدته الشهيرة بها ((لا تكذبي)) قصيدة حقيقية ليست من نسج الخيال, فهناك من أصدقائه من هو شاهد على هذه الواقعة الحقيقية, كان من بينهم عملاق الصحافة المصرية الكاتب الصحفي مصطفى أمين, والكاتب الساخر أحمد رجب, ويعرفون لمن كتبها الشناوي ولمن باح بها في بداية النظم , فحين كتبها كامل كان يكتبها وهو يبكي والدموع حبيسة محاجره, يكاد أن يختنق بصوته وأن يختفي مع الكلمات0 لا تكذبي إني رأيتكما معا ودعي البكاء فقد كرهت الأدمعا0 هذا الشاعر الرقيق كان دميما ولا يختار إلا ذوات النصيب الوافر من الجمال, أمنيته الاستحواذ عليه والجري وراءه بشتى الطرق, وقد يصل إليه بعد أن يأخذ منه العناء والمشقة كل جهده ,فنستثمر منه كل ذلك بثمرة القصيدة الرائعة , التي ماإن ينتهي من كتابتها ويقرأها على سامعيه إلا وتسري سريان النار في الهشيم! كثيرة هي قصائده الجميلة , أحسب إنني اطلعت على ديوانيه ((كامل الشناوي)) والثاني((لا تكذبي)) فلست هنا بصدد إعداد دراسة عن شعره ولكنها كلمة أسطرها هنا عن هذا الشاعر الرقيق الذي يعرفه الكل من خلال قصيدته((لا تكذبي)) التي جابت الأفاق حينما شدا بها –عبدالحليم حافظ , وسمعها الموسيقار محمد عبدالوهاب, فأطلق عليها ((إني ضبطتكما معا)) كل قصة حب لكامل الشناوي كانت قصيدة فقد كانت القصيدة عنده أشبه((بمحضر))استجواب كقوله: حبيبها لست وحدك حبيبها أنا قبلك وربما جئت بعدك وربما كنت مثلك!! استمر عذاب الحب يطارده وقد أعلن ذلك مرارا وتكرارا أمام أصدقائه الخلص, حيث ما ينتهي من قصة حب فاشلة إلا ويقع بقصة حب أشد فشلا منها , ولعل مرد ذلك هو الذي خلق لنا الكثير من قصائد الشناوي, في صولاته ومغامراته العاطفية ,والتي لم تهدئ من روعة شكوكه وتشاؤمه من كل قصة حب جديدة يكون هو فيها بالنهاية الضحية0 فبرغم العذابات القاسية ,والنار التي يكتوي بها من حبيبته التي هجرته فهو يكره الخنوع ولا يحب الخضوع أنفه شامخا وكرامته لا تسمح له أن يجعل حبيبته تمرغ أنفه بالتراب , أنه يكره الهوان لا يود أن يكون أسيره بل أسير اعتزازه بنفسه وكبريائه أسمعه يقول: يا كبريائي00 لقد كلفتني خطرا فيه المنايا مطلات بأنياب!! تمرد الليل لا أغفو به أبدآ حتى أرى الفجر مسفوحا على بابي!! الشناوي الذي يتضور جوعا من الحب والحنان وينشده عند الغانيات,تأبى نفسه وكبريائه أن ينزل إلى الحضيض ,وأن يسلم عقله لغانية تلعب به كيفما تشاء, فهو كالذئب الحذر الذي يود الإيقاع بفريسته, دون أن توقع به لكي تعبث بقلبه, فقد جعل عقله وعاطفته في مأمن بعيداً عن ألاعيب وأحابيل فتيات قصائده! ولكنه في حالة حب وحرب طالما القصيدة مشتعلة وفي طور التكوين, فهو يثأر من الغادرة التي جعلته يتضور حبا وحنانا..يثير الغبار حولها, راجما إياها بقصيدة سرعان ما تتناقلها الصحافة ,دون الإتيان على ذكر بمن تكون القصيدة , وإن كان بعض من أصدقائه يعرفون ذلك جيدا00إلا أن القصيدة التي افتضح أمرها هي(لاتكذبي)فقيل إنها بتلك المطربة التي قيل عنها أنها كانت تشفق عليه ولم تكن تحبه فهو الرجل الضخم وهي الصغيرة التي تشكل عنده الرقم الصفر وهو الواحد0 يتألم ويتوجع ويعقد العزم على أن لا يقترب من الحب مرة ثانية, وما إن تغادره آلامه وأسقامه إلا ويعود مجددا لما كان عليه من قبل00لا يستطيع العيش إلا أن يكون في كبد العاصفة ثم يستكن ويكتب عن الحب الذي أضناه وحطمه ,يكتب أشعاره ومقالاته على صفحات الإخبار المصرية, التي بها جل أصحابه, فكتب ذات مرة يقول0(((لم يعد بيننا ما يغري بأن أخدعك أو تخدعيني,فقد خرجت من حياة نفسي ألا تدهشي فالحياة التي أحياها اليوم لا يربطني بها إلا ما يربط الناس بحياتهم من أمل ويأس, أو راحة وعذاب 00إنها حياة لا أتحرك فيها,ولكن أتمدد كجثة00وهي لا تضمني بين أحضانها ولكن تكفني كالكفن , في استطاعتي الآن فقط أن أصارحك بحقيقة قصتي معك00 لقد خدعتني وخدعتك, خدعتني بكذبك الذكي, وخدعتك بصدقي الغبي, ظللت سنوات أتوهم أنك تحبينني , تجرين ورائك قلبي الأبله ومشاعري الحمقاء, وخلال تلك السنين كنت أنتزع من نفسي خلجاتها وأقدمها لك في آهة , دمعة ,كلمة , قصيدة00وقد دفعك إيمانك بصدق عاطفتي إلى أن تمارسي حقوق حواء بقدرة وجدارة, فغدرت بوفائي وضحكت من دموعي))) وجاءه أحد أصدقائه وهو يقول له يا كامل00إن المطربة الكبيرة علمت بآلامك وعذابك00فقالت أن كامل الشناوي مسكين قد دمرته الغيرة! وصدرت ((أخبار اليوم))في اليوم التالي وهي تحمل مقالة كامل الشناوي, إليها!! ((صدقيني إذا قلت لك00إنني لست مسكينا, ربما كنت كذلك لو أنني استسلمت للوهم الذي علقني بك ولكنني قاومته ورفضت , وجعلت من كبريائي حصنا يحميني منك, ومن قلبي, ولاشيء يقوى أن يدمرني لأنني أحيا, مادمت أحيا, فإن العواصف التي تهب من حولي لا تزيدني إلا قوة على مواجهة الأعاصير ,إنني لست كثيبا من الرمل تبدده حفنة من الهواء,ولكنني جبل لا أبالي العاصفة , بل أحتفي بها وبدلا من أن تزمجر في الفضاء اجعلها تغني من خلال صخوري, وليس صحيحا أنني أغار من أي إنسان تعرفينه, فالغيرة لا تكون إلا ممن تحبيهم وقد عرفت بالتجربة أنك لم تحبي إلا ذاتآ واحدة, لا أستطيع أن أغار منها لأنها مختبئة في ثيابك أنك تحبين نفسك وتغارين ممن يشاركك حبها بل إنك تناصبينهم العداء ومن أجل ذلك عاملتني كما لوكنت عدوك الطبيعي, أحببتك فكرهتيني , قدمت اليك قلبي, فطعنتيه بخنجر مسموم)) يقول عنه شقيقه الشاعر مأمون الشناوي00 ((الكتابة عن شقيقي وصديقي, عن شعره ومغامراته تحتاج للبحث والتقصي, لا أستطيع أن أفيه حقه في هذه المقالة العاجلة عنه, ولكن لو فتشنا في الكتب التي ألفها أصحابه في فنون الأدب لابد أن نحصل على ضالتنا من بين سطور هذه الكتب, فضلا عن ما يرويها عنه صديقاه الصحفيان الكبيران مصطفى أمين وأحمد رجب, فالحديث والكتابة منهما عنه لاتمل00فقد كان مكتبه بالصحيفة(الأخبار) التي يعمل بها أشبه بالمقهى البلدي, إنه مزدحم بالناس ويتحدث الجميع ويتناقشون ويلتفون حول كامل الشناوي في صخب عنيف, وكان كامل الشناوي يبدو بين الجميع سعيدا بهذا الحشد الهائل من الأصدقاء والأحبة فكان يعرفهم ويعرف كيف يحبهم وكيف يكتشف ما فيهم من خير وجمال وأخطاء, ذلك لأنه يتغنى بالجمال ويتفنن بالسخرية وقد حافظ –كمال- على بابه مفتوحا طيلة عمره وعلى طريقته الريفية التي تحب الحياة في النور تحت أشعة الشمس تحت سقف السماء مباشرة)) كان مقهى الفيشاوي هو الشاهد الآخر على عاشق الليل وشاعر الحب والجمال كامل الشناوي. يقرأ فيه الشعر على أصدقاءه ويلقي بسخريته اللاذعة عليهم, ويتأمل ويناقش حتى مطلع الفجر, وكانت هذه المسامرات عنده أفضل من كتابة قصيدة خلف أبواب مغلقة, لذلك كان شعره الجميل ينساب لقلوب عشاقه, فكانت من أسمى وأعذب القصائد الجميلة التي قيل في الحب والجمال, كانت قصائده بعيدة عن الخلاعة والمجون, كان ذواقة للجمال إذا مرت به تثير طربه ونشوته, بعيدا عن الإثارة للحواس,فهذه ليست في حسبانه, يتغني بالجمال فيسكبه شعرا عفيفا ينتشي به, يقرأه على سامعيه لا يرتجي الشهرة والمال00ورغم ذلك فالشهرة جاءته جاثية عند ركبتيه , فقد شاع صيته في أرجاء المعمور وحلقت بالآفاق , فكان يكتب القصيدة وهو في مكتبه (بأخبار اليوم) أو بالمقهى وتقرأ في اليوم التالي بالإسكندرية وكافة المحافظات المصري ,بحري وقبلي, وتقرأ في عواصم عربية كثيرة, ولم تكن حياته الوظيفية أفضل مما هو عليه في بذخ وتبذير بل كان يستدين على مرتبه الضئيل ليواصل بذخه وتبذيره, كان يعيش ليومه دون حساب للغد, وإذ أطلت عليكم مقالتي هذه عن كامل الشناوي00فأحسبني أنني أتيت على ذكر شقيقه الشاعر الكبير مأمون الشناوي, شاعر الألف وخمسمائة قصيدة00 كانت من روائع القصائد الغنائية التي تغنى بها عمالقة الطرب المصري العربي00من أمثال أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ,وغيرهم فقد غنت أم كلثوم لمأمون الشناوي((دارت الأيام)) لحن –محمد عبدالوهاب- و((بعيد عنك حياتي عذاب)) و((أنساك ده كلام)) و((كل ليله))وغيرها الكثير0 ولكن حدثت جفوة واختلاف بينه وبين أم كلثوم00حينما طلبت منه أم كلثوم من مأمون الشناوي, أن يكتب قصيدة لتكون من لحن رياض السنباطي00فقدم لها ((الربيع)) فطلبت منه تعديل شطر00فرفض وقدمها((لفريد الأطرش)) كانت وجهة نظره أن التعديل يقتل القصيدة جملة وتفصيلا0 وكان كامل الشناوي , وهو في أواخر عمره00 لوحظ عليه تردده على (المقابر) فيقول عنه مصطفى أمين,في كتابه((مسائل شخصيه)) فوجئت به يتردد على المقابر, ولم تكن هذه عادته, وسألته ماذا حدث, فابتسم ابتسامة حزينة وقال: أريد أن أتعود على الجو الذي سأبقى فيه إلى الأبد00 فمات كامل الشناوي, في مستشفى الدكتور عبدالله الكاتب في أول شهر ديسمبر عام(1965م) وكان حول سريره ثلة من أحبائه وأصدقائه الخلص00وكأنه يقرأ طالعه في قصيدته بديوانه قبل وفاته ذلك اليوم وهو يقول: إذا مت فابكوني و قولوا لقد قضى00شهيد حياة عاثر الحظ شاكيا وما لحده إلا جوانح قد حوت 00شعورا من الأشجان والحب داميا رحم الله شاعرنا العربي الكبير, كامل الشناوي0 الذي بقيت آثاره , ومؤثراته في الثقافة المصرية, بل العربية نابضة شاهدة على خلود قصائده الرومانسية الجميلة ,ومنها المغناة ذات الطرب الأصيل!!