الجامعة العربية تحذر من إشعال الفتنة في سوريا    التميمي يدشّن حزمة من المشاريع التطويرية في مستشفى الإيمان العام    مدرب الأخضر "رينارد" يكشف عن آخر مستجدات مواجهة العراق في خليجي 26    في أدبي جازان.. الدوسري واليامي تختتمان الجولة الأولى من فعاليات الشتاء بذكرى وتحت جنح الظلام    نوتينغهام يواصل تألقه بفوز رابع على التوالي في الدوري الإنجليزي    عمومية كأس الخليج العربي تعتمد استضافة السعودية ل"خليجي 27″    السلطات الجديدة في سوريا تطلق عملية بطرطوس لملاحقة «فلول النظام المخلوع»    وزارة الثقافة تُطلق المهرجان الختامي لعام الإبل 2024 في الرياض    طارق السعيد يكتب..من المسؤول عن تخبطات هيرفي؟    السعودية: نستنكر الانتهاكات الإسرائيلية واقتحام باحة المسجد الأقصى والتوغل جنوب سورية    بموافقة الملك.. منح وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الثالثة ل 200 متبرع ومتبرعة بالأعضاء    أسبوع أبوظبي للاستدامة: منصة عالمية لبناء مستقبل أكثر استدامة    مدرب قطر يُبرر الاعتماد على الشباب    وزير الشؤون الإسلامية يلتقي كبار ضيوف برنامج خادم الحرمين الشريفين للعمرة والزيارة    تدخل جراحي عاجل ينقذ مريضاً من شلل دائم في عنيزة    الإحصاء: إيرادات القطاع غير الربحي في السعودية بلغت 54.4 مليار ريال لعام 2023م    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    الذهب يرتفع بفضل ضعف الدولار والاضطرابات الجيوسياسية    استمرار هطول أمطار رعدية على عدد من مناطق المملكة    استخدام الجوال يتصدّر مسببات الحوادث المرورية بمنطقة تبوك    السعودية رئيسًا للمنظمة العربية للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة "الأرابوساي" للفترة ( 2025 - 2028 )    الفكر الإبداعي يقود الذكاء الاصطناعي    «الإحصاء»: 12.7% ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    وطن الأفراح    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    المملكة ترحب بالعالم    حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    نجران: «الإسعاف الجوي» ينقل مصاباً بحادث انقلاب في «سلطانة»    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    مسابقة المهارات    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكاية بدن كبير بداخله قلب أكبر تغشاه العواصف
أحزان الساخرين «1 - 5»: كامل الشناوي إلى متى أنت قلبى ؟!
نشر في الرياض يوم 20 - 10 - 2005

قلبه سر شقائه والحب سر حزنه.. أكثر خلق الله سخرية «مصطفي كامل الشناوي» .. ذلك الرجل الذي ظل يعانى من القلق الدائم والحب الدائم والضحك الدائم.. في كل مرة كان يصارع فيها الحزن كان يلقى أشد الهزائم فيسرع إلى الناس يضاحكهم ويدفن في صخبهم احزانه ..
حائر كبير تلهب الكآبة حياته بسياطها فيبتسم : «ما من ابتسامة ارتسمت على شفتي إلا دفعت ثمنها دمعا وأنينا»..
كان يعتقد أن حب المرأة سيمنحه الثقة بالنفس والطمأنينة والراحة، فإذا به يجد التعاسة «إن الإنسان الذي يكره يبدو هادئا مطمئنا صحيحا معافى من الأمراض والأسقام والتبعات.. بينما الإنسان الذي يحب ولا يكره يبدو قلقا حائرا مريضا، مثقل الرأس بالهموم والأفكار.. فلماذا فضلنا الحب وقدسناه، لماذا لم نكره حتى نستطيع أن نحيا.. لقد أهبت بأخي في الإنسانية أن يكره وقلت له: فتكلم وتألم وتعلم كيف تكره. فلعله يتعلم.. حتى لا يعاني ما عانيت، أما أنا فلم أتعلم وأكبر الظن أني لن أتعلم».
خمسة وخمسون عاما عاشها كامل الشناوي بين العذاب والحب والعطف على الناس وتقديم المواهب الجديدة ودفعها إلى الأمام.. بل والدفع إليها بالأكل والشراب والمواصلات وتقديمها إلى مشاهير المجتمع حتى أن محمود السعدنى قال لى ذات يوم «كامل بك هو الذي عرفنى على عبد الوهاب وعلى مشاهير المجتمع، وكان يقول عني في التعريف بي الأستاذ والصحفي الكبير ورغم أني كنت شابا صغيرا وكنت أصاب بالدهشة من تعريفه لي بهذه الطريقة».
ولم ينس كامل الشناوي لحظة واحدة من شقاءاته في طفولته وشبابه، منذ ولد في 7 ديسمبر سنة 1910 في قرية نوسا البحر محافظة الدقهلية لأب يعمل نائبا للمحكمة الشرعية العليا، في بيئة دينية حيث كان عمه محمد مأمون الشناوي شيخ الأزهر الأسبق، وأخوه الشيخ المعتز بالله من علماء الأزهر وكان كامل سمينا لدرجة أن والده ووالدته كانا يخفيانه عن عيون الجيران الذين جاءوا لشرب «المغات» خوفا على ابنهما من الحسد.. كما كان بكري والدته حيث كان لوالده أولاد من زوجته السابقة المتوفاة.
التحق كامل بالمدرسة الابتدائية في المنصورة التى نقل إليها أبوه للعمل قاضيا بالمحكمة الشرعية، وفي العام الدراسي الثانى أصيب كامل بحمى جعلت والدته تتذكر نذرا لم تف به، فقد أعلنت أنه لو أكرمها الله بمولود ذكر ستبعث به إلى الأزهر ليكون عالما جليلا، ومنعه والده من المدرسة حين أخبرته الأم بالأمر، وجاء له بمعلم يحفظه القرآن ويؤهله للدراسة بالأزهر، وعندما انتقلت الأسرة إلى القاهرة كان عمر كامل الشناوي نحو 15 سنة فألحق بالأزهر وظل به خمس سنوات.
ولعل إحساس كامل الشناوي بأنه سمين وغير وسيم ظل معه لفترة طويلة من حياته حتى استطاع أن يعوض هذا بالاقتراب من الجميلات وتحقيق مجد صحفي وشهرة ومكانة عالية نادرا ما يرقى إليها أحد.
غرام أول
وعاد الشيخ الشناوي وأسرته إلى القاهرة ليستقر الجميع في حي السيدة زينب وكان له أخ غير شقيق أكبر منه وهو المعتز بالله الشناوي تخرج محاميا فكتبوا يوم التخرج على لافتة ضخمة : «المعتز بالله الشناوي المحامي أمام المحاكم الشرعية» ولما ترك الجميع اللافتة لتجف تسلل إليها كامل وكشط كلمة «أمام» وكتب بدلا منها «وراء» وظلت اللافتة عدة أيام حتى اكتشفها المعتز فاشتكى لأبيه، ففسر كامل الأمر بأنهم فعلا يسكنون خلف المحكمة الشرعية، وزعم أن هذا هو المعنى الذي يقصده ونجا من العقاب.
ورغم حبكه للمقالب ضد إخوته إلا أنه كان حزينا من داخله بسبب ضخامة جسده «كنت في طفولتي عندما أمشي في حي السيدة زينب يلتف حولي العيال ويزفونني : «التخين أهو.. التخين أهه»..
وكنت دائما أتجنب الزحام.. عندما أفكر في شراء أي شئ، كنت أختار الدكان الذي لا يشتري منه أحد لشراء احتياجاتي.. وكان لي في طفولتي أصدقاء منهم فتحى رمضان وأحمد حسين وشرير الشاشة محمود المليجى»..
حفظ الفتى القرآن كاملا والتهم مكتبة أبيه التى تعج بكتب الدين ثم مكتبة عمه شيخ الأزهر الأسبق.. كان يبحث عن شيء يأخذه من عالم الصغار ويميزه عنهم.
ولم يستمر كامل في الدراسة الأزهرية .. بل انتظم في دار الكتب لدراسة الكتب التى تشبع رغبته هو لا المفروضة عليه ،فدرس الأدب العربي والتاريخ وقرأ عشرات من كتب الفلسفة القديمة والحديثة والإسلامية وعلم النفس ،ومن الطبيعى إزاء هذا أن يتمرد على تعليمه الديني ويذهب لتلقى الدروس في اللغة الفرنسية استعدادا للسفر إلى فرنسا ليتم تعليمه هناك، وحدثت ظروف حالت دون تحقيق رغبته.
ووقع «كامل» في غرام ابنة أخت المدرس، وكانت تعيش في ضاحية المعادى، وهى التى عرفته بالحياة وبجمالها وروعتها «ووجدت نفسي أنا الأزهري الذي نشأ في بيئة دينية أعيش بين أسرة عصرية تتعامل بعادات ومفاهيم مختلفة.. كنت أعرف أن الرجل إذا خلا بالمرأة فلابد ان يكون ثالثهما الشيطان .. لكنني خلوت بحبيبتي ساكنة المعادي مرارا فلم أر فيها شيطانا.. إنما لوحة رائعة أتذوق جمالها وأصونها وأحفظها .. وقد استطاعت هذه الفتاة أن تحولني من شيخ إلى فتى عصري (سبور) خلع عن قلبه العمامة كما خلعها عن رأسه»..
ومرت الأيام وانتهت هذه القصة الجميلة لأنه كان لا يزال في بداية حياته ولا يعمل، ولكنه وجد نفسه تنساب شعرا ولم يصدق زملاؤه أنه شاعر.. بل قالوا إن هذا الشعر يسرقه من شعراء كبار.. ويروي كامل أن المشرف على الصفحة الأدبية بالأهرام كان ممن يطربون للألفاظ الغريبة الميتة مثل :كجلمود صخر حطه السيل من عل.. ولم يكن يستسيغ المعاني الجديدة، ولما رفض المشرف على الصفحة الأدبية نشر شعره حبك له كامل كعادته مقلبا وكتب له قصيدة تقول كلماتها :
سلاما صباحا لا يعم ولا يجري
ولا ألما بها نفسي ولا تدري
ووقع كامل القصيدة باسم أشهر الشعراء في وقتها ونشر صاحبنا القصيدة وكانت فضيحة مدوية.
وفي عام 1930 فوجئ بنشر قصيدة له في مكان بارز من صحيفة «البلاغ» - حسب رواية يوسف الشريف - ولم تسعه الدنيا فرحا ومرحا وثقة بالنفس، لقد نال الشهادة الصحفية على شاعريته، وذهب لمقابلة الأستاذ إبراهيم المصري المشرف على الملحق الأدبي للبلاغ وقدم له نفسه وشكره، وإذا به يستقبله بالحفاوة والتقدير ويطلب له كوبا من الشاى، وقال له : شوقي بك أمير الشعراء كان في زيارتي بالأمس، وأبلغني أنه قرأ قصيدتك وأعجب بها كثيرا وطلب مني أن أعرفه بصاحبها، ولم أكن أعرفك أو أعرف عنوانك.
لم يصدق كامل الشناوي أن أمير الشعراء يسأل عنه، ولكن إبراهيم المصري أكد له ذلك وأبلغه بالذهاب إلى بيته بالجيزة أو إلى مكتبه في شارع جلال خلف سينما كوزموس بعماد الدين.
خشي كامل رهبة اللقاء فاصطحب معه الشاعر محمد الأسمر الذي كان يعرف كامل وكان صديقا لشوقى إلى مسرح الأزبكية في اليوم التالى حيث كانت تعرض مسرحية «مجنون ليلى» هناك، والتقى بزكى طليمات الذي كان يعرف كامل منذ عام 1925 حين كون كامل هو وأصدقاؤه جمعية المسرح وقدموا مسرحية على مسرح «برنتانيا» وحضر طليمات المسرحية بدعوة منهم.. وقام كامل بدور القاضي في المسرحية بعد أن تغيب الممثل الذي يلعب هذا الدور..
ولما تعرف كامل على شوقي قال له : عندما قرأت قصيدتك اعتقدت أنك شاعر نحل العشق جسده، ولكنك ما شاء الله ضخم جدا في حجم الفيل.. وارتاح شوقي كثيرا لكامل فجعله يحضر صالونه الأدبى في «كرمة ابن هانئ» .. وكان كامل يلقى قصائد شوقي بصوته وشوقي سعيد بهذا الإلقاء الرائع .
النكتة والغباء
وكانت بدايته مع صاحبة الجلالة عن طريق الشعر فبعد أن كتب قصيدة وطنية انضم إلى الحزب الوطني حبا في الزعيم مصطفي كامل الذي سماه أبوه على اسمه، وذهب بالقصيدة إلى جريدة «كوكب الشرق» والتقى بصاحبها أحمد حافظ عوض الذي أعجبته القصيدة فأمر بنشرها.. وكان كامل في الثامنة عشرة من عمره فسأله حافظ عوض عن عمله ،وكان ذلك عام 1932 ،وكان كامل مفصولا بسبب انتمائه إلى الحزب الوطني حيث كانت جميع الأحزاب وقتئذ ضد حكومة إسماعيل صدقي، وفي نفس اليوم دخل كامل غرفة مجاورة لصاحب الجريدة ليعمل مصححا مقابل عشرة جنيهات في الشهر.. وأخذ يصحح بروفات الجريدة.. ومن خلال «كوكب الشرق» كون علاقات بقمم المجتمع ومشاهير السياسة والفن والحياة، فمثلا صادق محمد محمود باشا زعيم الدستوريين ومكرم عبيد باشا وتعرف إلى أنطون الجميل وأحمد الصاوي محمد وطه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ومحمد عبد الوهاب.. كان ذكيا.. لماحا.. قادرا على جمع الناس حوله بحديثه العذب وقدرته على لفت الأنظار والآذان.. وكان الظرف وخفة الدم وصياغة النكتة وإلقاؤها هي السر في جذب هؤلاء إليه.. بل وكانت لديه مقدرة خارقة على تقليد الأشخاص والأصوات بشكل رهيب ورائع.. وكان إيمانه بالنكتة قويا لدرجة أنه يفلسفها حيث يقول عنها: «النكتة في أصلها تقوم على المفارقة، وهى في الغالب إلهام يولده ذكاء قائلها وغباء الذي تقال فيه.. وأحيانا تصدر النكتة عن غبي.. بغير قصد بالطبع!»..
وفي الحقيقة لم يلجأ كامل للنكتة ليكون مهرج الملك أو لقضاء وقت ممتع فحسب، وليس أدل على ذلك من قوله بأن النكتة تعبير قوى عن المشاعر.. وهي أقوى من الكلمة الصريحة، لأنها تحمى صاحبها من المسئولية.. وفي عهود الظلم والاضطهاد والغزو والاحتلال كانت النكتة تعبر عن سخط الشعب، وكانت وحدها تستطيع أن تصل إلى آذان الظالمين والمحتلين دون أن تصيب أصحابها بالمسئولية، إن النكتة أشبه بالموسيقى، وقد ظلت الموسيقى هي اللغة الوحيدة التى عبر بها الروس عن ثورتهم المكبوتة في عهود القياصرة، دون أن تتعرض للرقابة.. إن غرامه بها إنما يدل على أنه اختار سلاح الأذكياء يقاوم به كل ما قد يعترض حياته من ألوان الاضطهاد، وليسخر من مضطهديه»..
شرط العقاد
ورغم أن كامل لم يدرس الصحافة إلا أنه ضرب أروع الأمثلة للصحفي الذي يحب أن يكون وأكد على أن الصحفي يستطيع أن تكون له مبادئ يقدسها ولا يحيد عنها مهما كان، ففي الجريدة التى كان يعمل فيها سارع أصحابها بالتهليل لمعاهدة صدقي - بيفن، وأيدت محاولة إسماعيل صدقى فرض المعاهدة على مصر، فانبرى كامل الشناوي معارضا هذه المعاهدة داعيا الشعب لرفضها على صفحات تلك الجريدة وكتب مقاله الشهير «ألعنها .. ولا أوقعها».. داعيا الشعب لرفضها على صحفات تلك الجريدة .. وقد نجح.
وهنا كان على الشيخ كامل أن يغير زيه الأزهري ويتجه إلى لبس البدل وأن يرتدي ملابسه حسب الموضة.
وفي «كوكب الشرق» اقترب كامل الشناوي من الدكتور طه حسين الذي عين مديرا للتحرير بها بعد عام من عمل كامل بالجريدة وقرب كامل منه وأحب فيه خفة دمه.. ونشرت لكامل بعض المقالات الساخرة بأسماء مستعارة في ذلك الوقت.
ولأن «ركود الماء يفسده» فقد اختلف طه حسين مع أحمد حافظ عوض صاحب كوكب الشرق فتركها ليصدر جريدة «الوادي» فأخذ كامل معه وفيها حقق نجاحا مبهرا ثم انتقل لكتابة مقال يومي في جريدة روزاليوسف اليومية.. وكانت لكامل الشناوي حبكاته الصحفية والسياسية فالرئيس جمال عبد الناصر استجاب لطلبه وخصه بأول حديث له في الصحافة العربية والأجنبية على مدى أربع ساعات.. وكان كامل دوما يردد «أن الصحفي ليس من يثير الرأي العام، ولكن الصحفي هو من يستطيع خلق رأي عام لفكره أو مذهب أو اتجاه.. وقد قدم كامل الشناوي عدة مواهب ورعاها مثل صلاح حافظ ومحمود السعدني وكمال عبد الحليم وفتحي غانم ويوسف إدريس وغيرهم.
جمهوريات أمريكا الجنوبية
أما عن الحب في حياة كامل الشناوي فلنجعل مدخلنا كلمات مصطفي أمين عنه (.. برغم بدانته سريع التنقل، وخصوصا في حبه وهواه! وقلبه مثل برامج السينما التى تتغير كل أسبوع أو كل رواية تعرض على شاشة قلبه هي «تحفة الموسم» وهي «آخر صيحة» وهى «أقوى ما عرض حتى الآن» فإذا انتهى عرض الفيلم ارتدى نفس الثوب وتحلى بنفس الأوسمة والنياشين! وفي الفترة التى يحب فيها كامل الشناوي يصف المحبوبة بكل الأوصاف الحلوة والنعوت الجديدة.. وهكذا ترى أن قلب كامل الشناوي مثل جمهوريات أمريكا الجنوبية، مليئة بالانقلابات والثورات والتغيرات والتبديلات).. وبعد فاتنته ساكنة المعادى أحب ابنة أخت محمد التابعي، وتقدم لخطبتها فأبرق أهلها لمحمد التابعى يسألونه الرأى، فأبرق لهم بالرفض وصدم كامل في صديقه الكاتب الشهير.. ولما عادا وجمعتهما عشة التابعي في مصيف رأس البر ذات عام وأحس التابعى بأن كامل يريد أن يستفسر عن سر رفضه فقال له التابعى: «أنت يا كامل تسهر طوال الليل ولا تعود إلا في الصباح.. وهى فتاة عمرها 18 عاما فماذا ستفعل في وحدتها ومللها.. إنها تحتاج لبيت وأسرة وحب وصداقة وحنان»، واقتنع كامل بكلام محمد التابعي.
ثم أحب فتاة أخرى وأحبته وفكر في الزواج بها وسافر بضعة أيام وعاد ليجدها متزوجة واختزن آلامه حتى ظهرت في شعره: «أنا لا أذكر كم يوم مضى منذ التقينا، ربما من ساعتين.. ربما من سنتين، كل ما أذكره أنا انتهينا .. وتولانى الضياع، حين أبصرت: الوداع، لا تثر حولي ضجة، فلقد أصبحت زوجة!»..
وأحب فاتنة السينما كاميليا وذاب فيها ولها وعشقا وكتب في شفتيها «تتعثر الأنفاس في شفتيك، سكرى من هنا وتفوح كالانسام». وبعد كاميليا أحب نور الهدى، لكن أعمق قصة حب في حياته كانت مع «روز أزورى» التى تنافس عليها هو ومحمد التابعى، وكان التابعى ينفق عليها ببذخ وكامل لا يملك أن ينافسه.. يقول كامل «إن أعمق قصة حب في حياتي وأبعدها أثرا على فني كشاعر وأديب تلك التى كانت بطلتها غانية في كباريه.. حدثت وقائع هذه القصة عام 1937 كنت في مطلع شبابى أملأ الدنيا شعرا وغناء عذبا حالما.. كان أول لقاء بينى وبين حبيبتي في الكباريه الذي تعمل فيه.. ذهبت ذات مرة أستروح من عناء العمل الصحفي المجهد، فوجدتها تتهاوى إلى منضدتي .. ونظرت إلى وجهها المليء بالأصباغ، وإلى يدها التى حرقت أصابعها السجائر، وكانت هذه أول نظرة لها وشممت رائحة الخمر تنبعث من فمها.. لا أدرى كيف بدأ الحب بعد ذلك».
هو لا يدري كيف بدأ الحب لكنه يدرى كيف انتهت القصة فبعد أن أخذ يلهث وراءها من ملهى إلى آخر استقر الوداع على ذات المنضدة التى التقاها عليها أول مرة، وشرب معها نخب الحب المفقود الذي دفنته هي إلى الأبد، ذلك أنها لم تتفرغ له ولم تعطه الحب الذي أراد..
ويذكر يوسف الشريف حين اصطحبه كامل الشناوي ذات يوم إلى امرأة لبنانية الأصل، أوروبية الاسم وترجمته بالعربية «زهور» حيث التقاها كامل في بار في أحد الممرات الجانبية عند تقاطع شارع شريف مع شارع 26 يوليو، «كانت لا تزال تحمل مسحة من الجمال الغارب.. وبصمات السهر وأعمال الليل.. شعرها الذهبي أصبح كالح الصفرة ووجهها مصبوغا بالمساحيق وقوامها رغم اكتنازه مازال يتقن فن التثنى.. ولكن عينيها ظلتا برغم الزمن شابتين في الثلاثينيات .. تلمع في الضوء الخافت بريقا وسحرا وذكاء».
«أزيك يا كامل بك» و«ازيك يا زهور» .. وذكريات وضحكات كان صداها يصلنى في المكان الذي جلست فيه بعيدا.. ولم أسأله عنها ولا عن ذكرياته معها ولكن سهرة جمعتنا بالفنانة تحية كاريوكا في شقته التى استأجرها بالإسكندرية صيف 1963 كشفت عن هوية «زهور» وعلاقتها العاطفية بكامل الشناوى. وكان قد فرغ من حديثه المرح ومن لعب «البوكر» مع جلال معوض وليلى فوزي وصلاح ذو الفقار وحرمه والسيد بدير وشريفة فاضل.. كان سعيدا بالصحبة الحلوة ونسمات البحر تندى مجلسه.. عندما طلبت تحية كاريوكا منه أن يروى قصيدة العيون.
وكانت تحية كاريوكا تعرف الكثير عن غرامياته مع الغانيات والفنانات.. وكان يحترمها ويخشى لسانها .. وذاكرتها .. تململ وحاول أن يشدنا إلى حديث آخر .. وإذا بتحية تسأله : ما شفتش «زهور» يا كامل بك .. مش فتحت بار.. و.. كأنه لم يسمع سؤالها.. وتربع على الكنبة.. وفي نبرات متهدجة بالألم والذكرى بدأ ينشد قصيدة العيون: «لا وعينيك يا حبيبة روحى، لم أعد فيك هائما فاستريحى، سكنت ثورتى، فصار سواء، أن تليني، أو تجنحي للجموح، واهتدت حيرتى، فسيان عندى، أن تبوحى بالحب أو لا تبوحى» .
أما عذاب الحب فقد ذاقه عام 1962 كان أحد أعياد ميلاد حبيبته المطربة «المنيو» واشترى لها بما يزيد على المائة وخمسين جنيها من الجاتوه والتورتة، وذهب إلى شقتها وأثناء تقطيع التورتة وأمام الحضور أمسكت بيد كاتب القصة القصيرة ذي العينين الزرقاوين ليساعدها في تقطيع التورتة.. ولم يستطع كامل أن يكمل الليل، ارتسمت الأحزان على وجهه وحاول ألا يظهر ذلك فلم يستطع .. بكى قلبه بصوت مرتفع فخرج إلى الفضاء الرحب وذهب ليكمل السهرة مع أصدقائه عبد الرحمن الخميسي وسعيد أبو بكر وفاتن الشوباشي ويوسف الشريف، وبعد ساعة استأذن منهم وذهب إلى منزل المطربة التى أحضر لها التورتة.. طرق الباب.. فتحت الخادمة.. ولم يستأذن كعادته ودخل و«عيناك في عينيه.. في كفيه.. في شفتيه.. ويداك ضارعتان تتلهفان في شغف عليه».
وكتب إحسان عبد القدوس قصة الشاعر والمطربة في جريدة الأهرام تحت عنوان «وعاشت بين أصابعه» كتب: «أنها تحتل قلبى، وتتصرف فيه كما لو كان بيتها.. تكنسه، وتمسحه وتعيد ترتيب الأثاث.. وتقابل فيه كل الناس ،شخص واحد تهرب من لقائه.. صاحب البيت»..
والغريب أنها حين سمعت القصيدة منه طلبت أن تغنيها وكلما تذكر كامل الواقعة انتحب وكتب «كان من المفروض أن أكون معهم، أشاركهم الاحتفال بعيد ميلادها.. فهي صديقة وهم أصدقائى ولكنهم نسوا أن يدعوني إلى الاحتفال. وتداركوا نسيانهم فذكروني في سهرتهم.. وقدموا إليها هداياهم وكان سيرتي أبرز ما في الهدايا .. وضعوا أمامهم التورتة.. ومع التورتة مزقوها بالسكين ثم أكلوا .. أكلوا التورتة .. وأكلوا سيرتى!!».
وحاول كامل التمرد على الألم ومواجهة الخائن فكتب «حبيبها.. لست وحدك حبيبها.. أنا قبلك !! وربما جئت بعدك، وربما كنت مثلك»..
لكن مأمون الشناوي في حوار صحفي أجرى معه عام 1988 نفي أن يكون بطل الحكاية كاتب القصة الشهير وقال «أحب واحدة ذات مرة من الوسط الفنى وكانت علاقته قوية بها يزورها في البيت ولكنها خانته مع صاحب توكيل سيارات لشركة معروفة وصدم صدمة عنيفة في هذا الحب، إنها بطلة لا تكذبي»..
وكنت مدعوا إلى الغداء في «شيراتون» ووجدت هذه المطربة مع مليونير من تجار السيارات، وعندما ذهبت إلى كامل وأخبرته بأنني قابلتها مع هذا الرجل تغير وجهه من أثر الصدمة وأخذ يسألني، هل كانت يده في يدها.. وحدثت مواقف أكدت لى آنذاك أنه يحبها فعلا، وبعنف، ولن أذكر اسم هذه المرأة لأنها لا تزال حية.. ولست أدرى لماذا تنكر هي أنه كان يحبها، هل يكره أحد أن يكون محبوبا، أنا واثق أنها لم تكن تحبه لكنها كانت تقدره كفنان وإنسان وهو كان يعلم أنه لم يكن فتى أحلامها، وكان لهذه الفنانة شقيقة، لكنه لم يتعلق بها مثلما تعلق بالأولى، حاول أن ينساها لكنه لم يستطع».
محاولات فاشلة
ناجي ابن مأمون الشناوي يفجر مفاجأة أخرى حين قال لنا : (أعجب كامل أيضا بمضيفة شابة في كافتيريا الهيلتون.. كانت تعتز بنفسها وترفض البقشيش وقد كتب فيها «مرت بنا كالطيف تسألنا، ماذا تريد، فلذت بالصمت، ودنت لتسألني على حدة، عما أريد، فقلتها : أنت!!
غضبت وألقت نظرة نزعت قلبى وشدته إلى فمها، يا ليته يقوى يقبلها، يا ليته ينساب في دمها»..
ظل كامل ثلاثين عاما يعمل بالصحافة دون أن يصدر كتابا واحدا وكان يتعلل بأنه ما زال ينقصه الكثير من المعرفة، كما أن الليل كان يأخذ الكثير من حياته وكذلك المقالب التى كان يفعلها.. فقد كان نجما من نجوم الليل وكان يحبه «أعشق الليل وأتمنى أن تصبح الحياة ليلا متصلا بلا نهار» فقد كان يخاف أن يأتيه الموت بالليل وهو وحيد.. وفي إحدى سهراته وكانت في شقته أقفل النوافذ وأسدل عليها الستائر .. ولاحظ الدهشة على وجوه أصدقائه وسألوه: لماذا والفجر على وشك أن يأتى الضياء؟. دعوني أستبقِ الليل.
وعن مقالبه يروى الكاتب الراحل سعيد سنبل أن كامل الشناوي استثقل دم أحد الأطباء فراح يروى عنه الكثير من الحكايات ومنها أن زبائنه كانوا يدهشون لصورة كبيرة وجدوها معلقة في عيادته لم تكن لهذا الطبيب ولا لوالده ولا لأحد من أسرته، وعندما راحوا يتحرون عن صاحب الصورة تبين أنها للمريض الوحيد الذي نجح الطبيب في علاجه».
ورغم السخرية التى اتسم بها كامل الشناوي إلا أن شعره كان يكتسى بالحزن والألم ومع ذلك ظل يناضل بإصرار، ظل يخدع الأطباء في شيخوخته كما كان يخدعهم في طفولته، وظل يأكل كل ما هو محرم عليه ويسهر كلما نصح بالاعتدال .. فالاعتدال قيد وهو لا يعترف بالقيود.. والاعتدال موت وهو لا يعترف بالموت!».
حتى يوم ميلاده الذي كان يحتفل به في بيت محمد حسنين هيكل بدعوة من هيكل كتب فيه: «عدت يا يوم مولدى، عدت يا أيها الشقى، الصبا ضاع من يدي، وغزا الشيب مفرقى، ليت يا يوم مولدى كنت يوما بلا غد!!».. وهكذا عاش كامل الشناوي حياته ضحكا في جلساته.. حزينا في كتاباته .. ممتلئ بالألم كما جسده البدين، ورغم الحزن الذي في كلماته فقد ترنم بها أشهر الناس مثل أم كلثوم وعبد الوهاب الذي غنى له «زعموا حبي يا قلبي خطايا، لم يطهرها من الاثم بكايا، حسبما كان فاهدأ ها هنا في ضلوعي واحتبس بين الحنايا.. وغنى له عبد الحليم حافظ» لست قلبي» و«حبيبها» وغنت له نجاة «أنا لا أشكو ففي الشكوى عناء، وأنا نبض عروقي كبرياء».. ولعل إصرار العمالقة عبد الوهاب وعبد الحليم ونجاة على غناء قصيدته «لا تكذبي» ليس إلا إصرارا على عبقرية كامل الشناوي وشعره. ورغم إضرابه عن الزواج ومحاولاته الفاشلة فيه إلا أنه حزن كثيراً لفقدانه صحته وماله.. وأنه مر في الحياة دون ولد أو امرأة تسأل عن تأخره آخر الليل، وفي ذات اليوم الذي مات فيه مات صديق عمره الكاتب الساخر أحمد الألفي عطيه ونشر نعى الأسرتين في الصحف في يوم واحد.. وخرجت جنازة كل منهما من عمر مكرم وصلي عليهما في وقت واحد في ذات الجامع الساعة الثانية عشرة ظهرا.. دنيا! مات كامل الشناوي، وظلت باقية كلماته التى يقول فيها «أنا سوف أسبق ال 24 ساعة الأخيرة من حياتي وأموت فهول الموقف يكفي ليوقف دقات قلبي»..
وأيضا قوله «ليس عندي التزامات أهتم بتصفيتها في لحظاتى الأخيرة .. فأنا أعيش يوما بيوم مثل البقال، يفتح دفتر اليومية الصبح ويقفل حساباته آخر الليل! والإشكال الحقيقي أن يتحقق سؤالك في آخر الشهر، وأنا لا أملك رصيدا في أي بنك ولا بوليصة تأمين، والرجل الوحيد الذي سيشرب المقلب هو صاحب البيت»..
ينشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.