هو يعرف أن كل مَنْ في الحي يعرفون أنه عجوز لا ملجأ له. وأن لا مأكل له. وأن لا مشرب له. وأن لا ملبس له. وأن الصيف يحرق جلده، والشتاء يكسر عظامه. وأن العيد يمرُّ به، كما تمرُّ جنازات الموتى الصامتة إلا منه، حين تنتقل من كل مساجد الحي إلى المقبرة الوحيدة، التي لا تبعد عن كل مساجد الأحياء المجاورة، كثيراً. كان جنازة تعيش في ثوب حي. ثوب رث، تتصارع فيه الزيوت المتراكمة والروائح الكريهة: - مَنْ يدلني لقبري؟! منْ يأخذني إليه؟! كان يغني هذين السؤالين، غناء لا مثيل له، حين يكون هناك فرح جماعي، أو حزن جماعي. وكان كل الفرحين أو الحزانى، يبذلون كل طاقاتهم، لإيقافه عن الغناء، ثم لإبعاده قدر الإمكان عن المكان. شيئاً فشيئاً. وصل به المكان إلى لا مكان، حيث لا فرح ولا جنازات. وشيئاً بعد شيء، صادفه شاب كان يعاني من أن لا ملجأ له. لا مأكل ولا مشرب أو ملبس له. كان هذا الشاب يجهل كيف يغني. طلب من العجوز أن يعلمه غناءه. ذات نهار صيف قائظ. شاهد الناس العجوز والشاب، بملابسهما الرثة، وهما متشابكا الأيدي، كما يليق بجنازتين. شاهدوهما يتوجهان إلى المقبرة، وهما يغنيان غناء مشتركاً لا مثيل له.