خزائن ذاكرتي عبقة، وسأسمح لك قارئي العزيز باختلاس نظرة للجمال فيها، أقدم أولاً بطل أعياد طفولتي «سانتا كلوز السعودي». كل عيد من أقصى البلدة يسعى بثوبه الأبيض، ووجهه الأبيض، وشماغه الأحمر، وجيبه الطاهر يشف عن ريالاته الحمراء، يسير ونطوف به، نقبل رأسه، يتبسم ضاحكاً، يمسح بنظره رؤوسنا، نمد أكفاً مخضبة بالحناء والترقب، نتلقف ما يؤتينا من هبات سخية، ويبدأ العيد. «أبولو نجد» يكفي أن أتذكره لأطرب، حنطي الوجه مستديره، باسم كطفل أبدي، تغريه الأفراح فيشد لها الرحال من ديرة لديرة، راكباً مع أي عابر، لا يعرف عروساً ولا مدعوين، قِبلته الحلبة وحاديه الطار، يتنفس إيقاعه، يسعى في كل درب به رقص، ومن طرف نجد لطرفها قلما تجد عرساً لا يكون راقصه الأوحد. لم يكونا فردين في بلدتي، في زمن كان تديننا بسيطاً، والحكايا عديدة. شيخ كبير ثاني أيام عيد الفطر طافت به حفيداته يعايدنه، راغت إحداهن وجاءت بالقهوة وما يحليها، رأى أيدي الشابات لا تصل لما يذوقه فنكرهن، قلن: صائمات! نظر نظرة في الوجوه ثم طردهن من مجلسه «ما خبرت صيام الست إلا للعجائز». امرأة قدّت من ضحك سأذكر لها موقفاً واحداً، فقد راهنت قريبات في مقابل ريالات 50 أن تمازح حماها وهو يصلي الإشراق. أتته تغني بأبيات ذات إشارات جنسية واضحة، وضحكا ونالت ال50. شيخ آخر يسمع حديثاً موجزاً عن الجنة فيذكر وصفته «سأتعلق بخمار أم فلان (أخت صهره) يوم الحساب وتقودني للجنة». أين هؤلاء اليوم؟ منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وقطع دابرهم. من سرق بساطة تعاملنا مع الله؟ من قتل الفرح في نفوس السعوديين؟ بلدتي كان الرقص ديدنها: في الزواج، في الطلاق، في العيد، على حافة السيل. أهلها يغنون في الحرث، والبذر، والبناء، والحصاد، والصرام. «إن الله لا يحب الفرحين»؟ في القرآن نسب الفرح لضالين مضلين، ونسبه للمؤمنين «يومئذ يفرح المؤمنون» «فرحين بما أتاهم الله» «تبسم ضاحكاً» و«وامرأته قائمة فضحكت». الوعظ عندنا تجاهل الفرح، والتفاسير سلبت المرأة ضحكها في القرآن فتأولته بأن المعنى حاضت! أما الحزن فقد جاء في أكثر مواضعه في القرآن مسبوقاً بلا النافية أو الناهية، فكيف بتنا نقدسه وننفر من الفرح ومظاهره؟ هي رهبانية ابتدعها أقوام قبلنا، ونبه صلى الله عليه وسلم أن سيكون فينا من سيجعل مبتدعي السابقين أسوته فقال «لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه». وكما نجح الخطاب الديني التقليدي في جعل الشكليات أهم قضايانا التي نسهر جراها ونختصم، نجح في إقناعنا بأن الاقتداء المنهي عنه بالآخرين هو تقليدهم في المأكل والمشرب والملبس. أفتانا بهذا وترك بعضنا يموج في بعض، واصطنع طقوسه الكنسية، وأصدر صكوك غفرانه بلغتنا المحلية. ثم ألبس علينا الأمر لنتهم أنفسنا بدل أن نسأله، وازداد تسلطاً باسم الدين بعد أن أزهق مع الفرح إرادة الحياة. إن فتاوى تحريم الاحتفال بالأعياد، ومطاردة كل أحمر في فبراير، وتبديع كل مظاهر الاحتفاء بالمناسبات الفردية الخاصة قتل منظم للفرح في نفوسنا، لا يقاد به القتلة، فهم آباؤنا في المذهب ولا يقاد والد بولده. ولم يهمهم كيف نكون خلفاء في الأرض نعمرها ونحن منهزمون من الداخل؟ خطابنا التقليدي علّم الفيليبيني أن يكتب اعتذاراً على باب مطعمه أن لن ينشد لطفل في عيد ميلاده لأن ال«mutaw3» غير مسرور بنشيده، ولن يعني الاسم والرسم في ذهنه إلا إرهاباً للفرح. حُرّمت علينا كل الأعياد ما عدا الفطر والأضحى، ثم سلبنا فرحة العيدين، جراء التبديع المنهجي لكل ضحكة ورقصة وعبارة تهنئة. مر رأس السنة والدنيا تضيء أنوارها والرياض كأنما تذكرت يوم الأرض فانطفأت. أضعنا ككل سنة فرصة إظهار عالمية ديننا وسماحته، نصد عن قوله تعالى «لا ينهاكم الله عن الذين لا يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم». لا يسمح لنا فقه السلطة، ويسمح للسلطة أن تهنئ عواصم لا نعرفها بما لا نعرف، ولو فرح فتى بشبابه لطاردته جموع المحتسبين حتى يتوقف قلبه رعباً. لا أريد أن أوغل فيما سينافح عن حرمته كل متدين، يقذف من يناقش في عرضه، وقد يكفره، لينام بعدها مرتاح الضمير كأي دونكيشوت يحسب أنه يحسن صنعاً، فلا قانون يحمي من القذف لدينا، ولا عاصم لأفراحنا من أن تسرق. اللص شريف بمنصبه، ويد الشريف في عرفنا لا تقطع. * كاتبة سعودية.