وعودة لأصحاب النظرة الأخرى التي ترى أن هذه المكافأة هي قيمة مدفوعة ل"شراء البحوث" فهم يرون أن المكافأة ليست سوى "رشوة" مبطّنة، فعوضاً على عدم ثقة بعضهم الكاملة ببعض الجهود المحلية، قد ينظرون إلى البحث على أنه عمل خالص من أجل المعرفة ويجب أن يبقى نزيهًا من الدوافع المادية. وهذه النظرة موضع جدل واسع لأنه - كما سبق ذكره - فإن أكبر مراكز البحوث في العالم تدفع مبالغ ضخمة لخدمة البحث العلمي والصرف على الباحثين، ويكفي أن نعلم أن أمريكا واليابان ودول الاتحاد الأوربي تنفق مايزيد على 417 بليون دولار سنويًا على البحث العلمي، وأن التمويل لأيّ بحث يبدأ مع فكرته وخطته وتنفيذه، فضلا عمّا يناله الباحث من مكافأة بعد نشر بحثه والاعتراف به. ومن المحتمل أن أصحاب هذه النظرة لديهم زاوية رؤية أخرى لهذه المكافأة وذلك بالنظر إلى العمل بأكمله من خلال وجود عمليتين ميكانيكيتين: إحداهما عملية "دفع المال" والأخرى هي عملية "جلب البحوث". ومن خلال عملية دفع المال التي تؤدي إلى جلب البحوث، فإن المسألة في نظرهم هي «شراء بحوث»، وكأنها بذلك تُشبه من يدفع مبلغًا من المال لكي يشتري بحثًا جاهزًا وينسبه لنفسه. وهنا تكمن الخطورة في الفهم، لأن القارئ قد اعتاد على سماع القول بشراء البحوث من أشخاص غير أكفاء، فيجد أن الأمر قد التبس عليه من خلال سحب هذه التهمة على جامعة عريقة تمثل المرجعية العلمية في الأصالة والدقة. ولو صحّت هذه النظرة الميكانيكية لعلاقة المال بالعمل، فسنجد أننا أمام رؤية سلبية للعالم تؤدي إلى انقلاب الموازين في أذهاننا نظرًا لتغيّر المعايير الأخلاقية التي نحكم فيها على الأشياء. ووفقاً لذلك، سنقول بأن أي جهة تدفع رواتب للموظفين إنما تشتري جهد هؤلاء الموظفين بالمال لخدمتها وتنفيذ برامجها الخاصة، والذي يدفع أجرة شقته لصاحب العمارة إنما يقوم برشوته للسكوت عليه وإبقائه فيها، ومن يدفع رسوم دراسة ابنه أو ابنته في المدرسة الأهلية فإنما يشتري نجاح هذا الابن أو البنت بماله، وهكذا يمكن القياس على ذلك في كثير من تعاملاتنا في الحياة. وبالعودة إلى الخبر المنشور في مجلة "ساينس" التي نشرت الخبر تحت عنوان "جامعات سعودية تمنح أموالاً في مقابل الاعتبار الأكاديمي"، وأجرت فيه مقابلات مع عدد من الأشخاص ممن قدّموا إجابات متباينة بعضها نظر إلى الاتفاقية على أنها عمل جيد ومفيد، وهناك من لم يتّضح له الأمر نظرًا لعدم وجود الشرح الكافي أو لأنه أمر جديد عليه. وذكرت أسماء بعض الجامعات السعودية، ونظرًا لمعرفتي بما يجري في جامعة الملك سعود التي كنت عضو هيئة تدريس فيها وعميدًا لشؤون المكتبات إلى فترة قريبة، فإنني أؤكد للقارئ الكريم أن الشراكات العلمية التي عقدتها الجامعة مع الجامعات العالمية والاتفاقيات مع العلماء هي في إطار خدمة البحث العلمي من خلال التعاون الدولي مع الباحث الذي يقوم بتدريب باحثين سعوديين وتوفير البيئة العلمية لهؤلاء الباحثين الجدد للاستفادة من المختبرات والتجهيزات التي لدى العالم في جامعته أو معهده العلمي، وهذا من شأنه أن يرفع كفاءة الجامعات السعودية من خلال استقطاب هؤلاء العلماء وتقديم منجزاتهم في محيط الجامعة بهدف استفادة الطلاب وأعضاء هيئة التدريس منها، ومن خلال احتضان باحثين سعوديين وتنمية قدراتهم والدفع بهم في مجال الاكتشاف والبحث المتميز. لقد تغيّرت نظرتنا للجامعة بعد تلك المنجزات وصرنا نفخر بانتمائنا إليها، ولا أزال، حتى وأنا خارجها الآن، أشعر بالفضل والامتنان لهذه الجامعة العريقة على ما تقدمه من فرص حقيقية لدعم العلم وتشجيع البحث وخلق الإمكانات الذكية التي تُذلل الصعاب التي تقف في وجه التطوّر. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن حول ما ارتبط بالخبر من إثارات، هو لماذا جاء الاهتمام بالخبر بعد نشره في مجلة "الساينس" وكأنه ينشر لأول مرة؟ هل لأننا نعتدّ بالمصدر الأجنبي أكثر من المصدر المحلي؟ أو لأننا نعتبر ما ينشر لدينا يدخل في أكثره في مجال التنافس والإثارة الإعلامية في حين أن ما ينشر عند غيرنا يحمل المصداقية والدقة؟ وسؤال أخير يمكن طرحه للنقاش والمداولة وهو هل يمكن محاكمة من ينشرون معلومات غير دقيقة تُثير البلبلة وتسيء إلى السمعة؟ وهذا سيفتح لنا بابًا من الحوار المفيد حول مدى قدرة الناقد على تحقيق هدفه الإصلاحي دون التورط في التهم والتكهنات المبنية على معلومات تخمينية. ومع الإيمان بأن الرد على الشائعات والأخبار غير الدقيقة يُشغل المسؤولين ويستنزف أوقاتهم وربما يُدخلهم في مشاحنات تخلق روحاً دفاعية غالبًا ما تُفقد فيها الموضوعية، إلا أن الرد على بعض الأخبار التي فيها جناية على جهة ما هو أمر مطلوب، وقد يكون فرصة مناسبة ليس فقط لإبراز الحقائق وإنما كذلك لنشر الأهداف والغايات التي تكمن وراء أي مشروع.