سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
أثناء الحروب.. هل يمكن أن يتغير سلوك المرء وينتقل من حالة الهدوء والسلم ليُصبح في غاية التوحّش والبدائية ؟ رواية (طيور الهوليدي إن) تجسد سيكلوجية الفوضى
طيور الهوليدي إن ، رواية كتبها الروائي اللبناني ، الدرزي ، وهي رواية طويلة ، مليئة بالأحداث تقع في 648 صفحة ، تدور أحداث هذه الرواية عن الحرب الأهلية اللبنانية من خلال عمارة "بناية أيوب" أو كما يسميها سكان الحي "المبرومة" بسبب شكلها المستدير. إنها حكاية أحد أوجه الحرب الأهلية اللبنانية والمتمثل في تهجير المسيحين اللبنانين من مناطق مختلفة من بيروت إلى التكتل في بيروتالشرقية ، وتهجير المسلمين من بيروتالشرقية إلى بيروتالغربية. الرواية ليست وثائقية بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة ، لكنها خيالية تستلهم الخيال عبر حياة سكان العمارة التي تقع في بيروتالشرقية ، ويتم ترحيل المسلمين من سكّانها وتسكين مواطنين مسيحين في الشقق التي تركها المسلمون بعد تهجيرهم من بيروتالغربية ومناطق مختلفة من بيروت وحتى من مناطق آخرى من لبنان. الحرب اللبنانية ببشاعتها وعبثيتها، التي دارت في بيروت على وجه الخصوص لكنها طالت جميع المناطق اللبنانية من شمالها لجنوبها؛ المدن الكبيرة والقرى الصغيرة والإقتتال بين الفئات المختلفة في لبنان وكذلك دخول المقاتلين الفلسطينين في هذه الحرب البشعة والتي أنتهت بخروج المقاتلين الفلسطينين وتشتيتهم في بقاع مختلفة من دول العالم ، وكذلك المجازر الدموية التي تم ارتكابها بالمخيمات الفلسطينية بعد أن غادر المقاتلون الفلسطينون ، خاصة مذابح صبرا وشاتيلا وبقية المخيمات الفلسطينية. الحرب الأهلية اللبنانية ، شكّلت مادة خصبة للروايات والأفلام بالنسبة لجميع من يكتب الروايات ويُخرج الأفلام من جميع الدول العربية وحتى الاجانب من الدول الاوربية والولايات المتحدةالأمريكية. الرواية تبدأ بإعلانات عن مفقودين من طوائف مختلفة ؛ مسلمين، مسيحين، دروز. يخرج الشخص؛ رجلاً كان أم امرأة ولا يعرف هل سيعود إلى منزله أم أنه سوف يُقتل أن يُختطف و يبدأ أهله في نشر الإعلانات عنه في كل الوسائل بما في ذلك نشر ملصقات على جدران المقاهي والعمارات في أي مكان تستطيع العائلة أو الأصدقاء أو الجيران الوصول إليه. عمارة أيوب أو العمارة "المبرومة"، أصبحت تسكنها عائلات مسيحية جاءت من مختلف مناطق بيروت ، خاصة منطقة بيروتالغربية ، حيث يتركّز المقاتلون المسلمون وحلفائهم من القوى الوطنية، وكذلك تعقيد هذه الحرب العبثية التي تدّخل فيها قوات من سوريا ومقاتلين عرب وأجانب واختلطت فيها الأمور هي أصدق تعبير عن سيكلوجية الفوضي والعبثية. القتل بدمٍ بارد على الهوية أمر صار مثار دهشة في جميع انحاء العالم. المتاريس المتنقلة والتي تسمى " الحواجز الطيارة" أصبحت خنجر في خاصرة المجتمع اللبناني ، وهو أمر لم يحدث تقريباً بصورة مشابهة له في أي مكانٍ في العالم حتى ذلك الحين. صورة رائعة كتبها الروائي عن سيكلوجية الفوضى والعبثية في هذه الحرب ؛ حيث يتحدث عن شاب مسيحي من سكان عمارة أيوب أو العمارة "المبرومة" ، هو الطفل سعيد عازار. هذا الطفل عرف والده أن قدراته العقلية لا تُساعده على الدراسة فأخذه ليعمل معه كمراسل يوصّل الأدوية من الصيدلية التي يعمل فيها الوالد "راجي عازار" مساعداً لمالك الصيدلية في وسط بيروت. جاءت عائلة عازار من قرب الكرنتينا وأحتلت شقة في العمارة المبرومة تعود لآل صالح الذين تركوا بيروتالشرقية خوفاً من القتل والخطف وذهبوا إلى بيروتالغربية. بعد أن أحتل السيد راجي عازار وعائلته شقة آل صالح ذهب ليرى منزله قرب الكرنتينا فوجد الباب مخلوع ، وصبية أخذوا جميع الأثاث الموجود في الشقة ومنعوه من أن يأخذ أي قطعة أثاث ، فرجع موجوع القلب إلى الشقة التي احتلها هو في بيروتالغربية في العمارة المبرومة. دبّت الفوضى في بيروت واجتاحت جميع الأحياء تقريباً فلم يستطع الأب راجي عازار الذهاب إلى ساحة الشهداء حيث الصيدلية التي يعمل بها. ابنه سعيد المتخلّف عقلياً أصبح يختفي لساعاتٍ طويلة فكان الأب يذهب يبحث عنه ويجده عند "بيت الكتائب" القريب من الحي ، ويعود به. لكن الفتى ذهب مرةً ولم يعد ، بحثوا عنه في الأماكن التي تعوّدوا أن يجدوه فيها لكن لم يعثروا عليه. " اختطف الولد " هذا ما قاله أمه وشقيقاته ووالده. بدأوا يُعلنون عنه عبر الملصقات في الأماكن القريبة ، ولكن سعيد عازار لم يظهر. حروب طاحنة بعد فترة طويلة ، عاد سعيد ومعه هدايا لأهله وهو يحمل أسلحة متنوعة ويلبس الملابس الخاصة بقوات الكتائب. لقد أصبح سعيد أحد مقاتلي القوات الكتائبية. هذا المتخلف عقلياً جاء معه سيارة ، لا يُعرف من أين أتى بها. وفي مرةٍ آخرى جاء ومعه مفتاح لشقة وطلب من عائلته أن ينتقلوا لهذه الشقة. لم تعرف العائلة كيف حصل سعيد على هذه الشقة. كان معه الكثير من المال الذي يوزّعه على أفراد عائلته. لأنه مُتخّلف عقلياً ، ولا يُفكّر كثيراً فقد ترقى في قوات الكتائب ، لأنه مقاتل شرس ، لا يخاف ولا يخشى الموت ، أصبح له موقع جيد بين أفراد القوات الكتائبية. أصبح يقتل بكل بساطة كما يقضم شطيرة الفلافل التي كان يأكلها عندما كان مراسلاً يوصّل الأدوية في الصيدلية التي يعمل بها والده في ساحة الشهداء. كان يقتل "الأعداء" من مواطنيه اللبنانيين بفرح ودأب ولم يتراجع عن القتال الشرس ضد هؤلاء "الأعداء" الذين لقّنه المسؤولين عنه في بيت الكتائب كيف يكون قاسياً قدر ما يمكن مع هؤلاء الأعداء ، الذين كانوا جيرانه وزملائه في العمل و كان يوّصل لهم الأدوية في منازلهم من الصيدلية التي يعمل بها والده. الآن أصبح يرى الهوية (البطاقة الشخصية) وبعدها يطلق الرصاص بكل بساطة على رأس الشخص الآخر إذا كان من الفريق الآخر!. حكايات تمتلئ بها الرواية من عبثية القتل عند الحواجز. طبيب يترك عيادته وينزل ليذهب لمنزله ويقابله أحد الحواجز الطياّرة التي نُصبت على عجل. بالطبع لم يعرفوا هؤلاء المقاتلين الجدد الطبيب المعروف في الحي، عكس الحاجز الدائم الذين كانوا يُلاطفون الطبيب ويتركونه يواصل المسيرة إلى منزله ، لكن هؤلاء بدأوا في إهانته وصفعه، وهو يحاول تعريف نفسه لهم بأنه معهم ومنهم ولكن بطاقة هويته تقول غير ذلك. جاء شخص يعرفه وطلب منهم أن يتركوه يُكمل طريقه. ترك الحاجز بعد أن ضربوه وأهانوه، فما كان منه بعد أن وصل إلى منزله إلا أن باع عيادته بثمنٍ بخس وجمع أغراضه وأصطحب عائلته الصغيرة وغادر لبنان إلى بلد آخر ليبدأ مشورا الهجرة كما فعل مئات الالآف من اللبنانيين إن لم يكن الملاييين من اللبنانيين غادروا لبنان بحثاً عن ملاذ آمن.. تركوا لبنان للمليشيات من المعتوهين والمرضى بالحقد والمملؤه نفوسهم بالغضب والرغبة في الإنتقام من الآخر بشكلٍ لا يمكن وصفه. في أحد مقاطع تراجيديا القسوة و البشاعة ، ما يحدث لسعيد عازار، الذي أصبح عضواً بارزاً في القوة الضاربة من حزب الكتائب ؛ ففي أحد الأمسيات يقع بين يدي المجموعة المسلحة التي معها سعيد عازار مجموعة من المواطنين اللبنانيين لا يعرفهم سعيد وهو رئيس المجموعة في ذلك الحاجز. يضع سعيد ومجموعته هؤلاء المواطنين أمام الجدار لكي يُعدّوهم لكي يعدمونهم. يتعرّف أحد الضحايا على سعيد ويخبره بأنه مسيحي مثله وأنه يعرف سعيد وعائلته وأنه كان صديقاً لشقيقته الكبرى ويُعّرف سعيد مراتٍ بنفسه ولكن سعيد يتردد في تقبّل كلام هذا "المجرم". يبدأ سعيد بإطلاق النار على الضحايا وعندما يأتي الدور على صديق شقيقته الكبرى ، يبكي يُكّررُ له أنه صديق شقيقته الكبرى ويعرف والده ويُسّمي أفراد عائلته ، لكن سعيد عازار -المتخلّف عقلياً- ، والذي لم يستطع أن يسير في دراسته فعمل مراسل يوصّل الأدوية إلى الزبائن بعد أن يُتعب والده في وصف المنازل والفنادق ويتأخر في كل مشوار ، أصبح الآن يحدد مصير حياة أشخاص كُثر بعد أن أصبح شخص ذا نفود في القوات الكتائبية. بهدوء يقرر سعيد أن يُكمل المشوار مع الضحايا الذين أستوقفهم فيطلق الرصاص على الشخص الآخر الذي كان مسيحياً مثله وصديق شقيقته الكبرى ويرى خط الدم يسيل من جبهة الرجل على ملابسه فيضحك ويُعلّق بتعليق يتناسب مع قدراته العقلية!. أصبح سعيد يملك سيارة جديدة ، وفي يوم أحضر مفتاح شقة وطلب من أهله أن ينتقلوا إلى هذه الشقة ، ولكنهم رفضوا. كان عندما يأتي كل مرة ، بعد غيبة عدة أيام يقضيها في قتال "الأعداء" على خطوط التماس بين بيروتالغربيةوالشرقية أو في مناطق وسط البلد يُحضر معه هدايا لأهله ولبعض جيرانه ، ويأخذ أولاد الجيران في نزهات بسيارته الجديدة. لقد مكّنه عمله كمقاتل في حزب الكتائب من أن يحظى بالعديد من المزايا ، التي لم يكن ليحزن عليها ، لو لم تقم الحرب الأهلية. فلو لم تقم الحرب الأهلية اللبنانية لبقي سعيد عازار يعمل مراسلاً يُوصل الأدوية من الصيدلية التي يعمل والده بصعوبة نظراً لبطئ الفهم وصعوبة التعّلم لديه. إن أحداث الرواية تحمل الكثير من سيكلوجية العبث خلال الحرب الأهلية اللبنانية.. أحداث تجعل المرء يُفكّر كثيراً كيف حدث هذا الأمر في بلدٍ هو الأكثر تحضّراً بين الدول العربية؟ كيف يتغّير سلوك المرء و ينتقل من حالة الهدوء والسلم ليُصبح في غاية التوحّش والبدائية؟. إن الحرب اللبنانية الأهلية تُمثّل عبثية غير مُبّررة ، ولا تخضع لأي منطق عقلاني إطلاقاً. الرواية التي ترصد حياة عائلات مسيحية تُقيم في عمارة يتبدّل سكّانها ، فيتركها السكان المسلمون لأنهم غير النسيج الذي بدأ يتشّكل حسب الطوائف والدين ، فبيروتالشرقية لم تعد مكان آمن للمسلمين ، فتركها المسلمون وفي المقابل ترك المسيحيون بيروتالغربية ولجأوا إلى بيروتالشرقية ، وأحتلّوا منازل النازحين من المسلمين الذين تركوا منازلهم ، وكذلك أستولى المسلمون المهّجرين من بيروتالشرقية إلى بيروتالغربية ، منازل المسيحين الذين فرّوا من بيروتالغربية. الآن نحن نعيش ما يُعرف ب "الربيع العربي" حيث الثورات ، والقتال بين أبناء الوطن الواحد ، لكن ما كُتب في هذه الرواية من عبثية البعض من "المتخّلفين عقليا" كما هو حال سعيد عازار. في الحروب الأهلية يتّصدر أصحاب الاضطرابات الشخصية وكذلك بعض الذين يُعانون من صعوبة في التعّلم المشهد القتالي نظراً ، لضعف قدراتهم العقلية التي قد تقودهم إلى العنف المفرط فيُصبحون أبطالاً ، وكذلك نظراً لعدم تقديرهم لعواقب ما يرتكبون من جرائم وفظاعات ضد أبناء وطنهم. إن الحروب الأهلية وما نراه الآن من قتل ومذابح غير إنسانية من مواطنين عرب ضد اخوانهم من نفس البلد وأحياناً يتقاتل أبناء العائلة الواحدة أو البلدة الواحدة أو القبيلة الواحدة ، فيقتل الأخ أخاه وهكذا نشاهد ونُراقب أحداث عنف غير مُبرر بأي شكلٍ من الأشكال. إن ما يُدعى بالربيع العربي قد يتكّشف عنه جرائم تمت من جميع الأطراف ففي مثل هذه الظروف يصعُب على المرء أن يُميّز بين الصحيح وغيره في ظل إدعّاء كل جهة بأنها الفئة المُنزّهة و البريئة التي ظُلمت ولم ترتكب أي خطأ في معمعة الحروب الأهلية التي صبغت الربيع العربي والذي سوف نرى فيما بعد كيف أن كثير ممن استفادوا من هذه الأحداث هم أيضاً من الفئات التي لعبت بكل الأدوات البرئية والمغموسة في الدم بكل ما تملك من قوة. لازلنا في البدايات وسيكتب التاريخ ماذا صنع هؤلاء ، إذا كان التاريخ مُنصفاً!!. دمار شامل