الحرب والمخدرات قد يكونان أمرين مُتلازمين في بعض الأحيان؛ خاصةً الحروب القذرة (وهل هناك حروب غير قذرة؟)، فقد عُرف استخدام المخدرات أثناء الحروب منذ زمنٍ بعيد، وإن كان استخدام المخدرات يختلف بين زمنٍ وآخر. في الحرب اللبنانية الأهلية، كانت المخدرات، تستخدمها جميع الجماعات المتقاتلة دون استثناء. كان هناك من يزرع المخدرات ومن يُصنّع هذه المخدرات ومن يُسّوق هذه المخدرات. كان المحاربون بين جميع الفرقاء يشتركون في شيء واحد تقريباً هو تعاطي المخدرات حتى يُصبحوا أقوى وكذلك يتناولون المخدرات لكي يتغلّبوا على الخوف الذي بداخلهم. وبالإضافة إلى ذلك كانت هناك المخدرات المنشطّة مثل الأمفيتامين والكوكايين التي توفّر نشاطاً غير طبيعي للمقاتلين. جميع من قاتل في الحرب الأهلية اللبنانية شاهد تعاطي المخدرات أو شارك في تعاطيها، لأنه في حربٍ مجنونة مثل الحرب اللبنانية الأهلية التي دامت مايقارب خمسة عشر عاماً أو تزيد، دون أن يعرف الشباب الذي يُطلقون النار على بعضهم البعض ويُمثلّون بجثث بعض، ماهو السبب وراء هذه الحرب. روايات كثيرة كُتبت عن الحرب اللبنانية كثيراً منها تناول جانب تعاطي المخدرات بين المقاتلين وذكر البعض كيف أن الاسرائيليين هم من يموّل المقاتلين جميعاً بالمخدرات إذا نقصت عن أن مجموعة مقاتلة حتى تستمر عجلة القتال دون توقّف، وتطحن في رحاها آلاف الشباب الذين يُقتلون أو يُصابون بإعاقةٍ هي أشد من الموت، حيث يعيش الشاب أو الفتاة بقية عمره يحمل وزراً ليس له فيه أي ارتباط أو فائدة!. مئات الآلاف من اللبنانيين قُتلوا ومئات الآلاف أصبحوا مُعاقين وتبرأ منهم جنرالات الحرب الذين كانوا يعيشون خارج لبنان في الفنادق الفخمة بينما الشباب الفقير هو الذي بقي يُقاتل ويتعاطي المخدرات ويُصبح مدمناً على هذه المخدرات وعندما انتهت الحرب لم يجد هؤلاء المقاتلون الذين أدمنوا على هذه المخدرات أي رعاية حتى في أصعب وأحرج الأوقات، وهي مرحلة ترك المخدرات، والمعروفة بعلاج الشخص من المخدرات عند توقفّها و أوقات الأعراض الإنسحابية. تُرك هؤلاء المدمنون لمصيرهم وحيدين، حيث لاقى بعضهم وجه ربه نظراً لأنه لم يجد من يُعالجه من مرحلة خطيرة هي مرحلة الانقطاع عن المخدرات فكان مآل بعض هؤلاء المدمنين، وبخاصةً المدمنون على أنواع قوية من المخدرات الهلاك. وكانت المليشيات كريمة جداً أثناء المعارك مع المقاتلين حيث تُغرقهم بالمخدرات، حتى اعتادوا وأدمنوا المخدرات وأصبحت جزءًا من طقوس حياتهم اليومية، يتناول المقاتل ما يشاء من المخدرات دون أن يُحاسبه أحد على إفراطه في تناول هذه المخدرات ولكن عندما توقفّت الحرب لم يعرف الشباب والشابات الذين عاشوا على هذه المخدرات من أين كانت تأتيهم المخدرات؟ و كيف يحصلون عليها؟ ولم يعرفوا بأنهم سوف يمرون بأوقات عصبية قد يموتون خلالها إذا لم يكن يتوفّر لهم العلاج الخاص بالأعراض الإنسحابية!. قبل فترةٍ من الزمن، لعله العام الماضي أصدر الروائي اللبناني ربيع جابر رواية "طيور الهوليدي إن"، تحدث فيها عن الحرب اللبنانية وعن المخدرات التي كان يتعاطاها المقاتلون فتياناً وفتيات في مناطق القتال بين الفئات المتناحرة في معارك بيروت و كيف كانت المخدرات جزءاً لا ينفك عن الحرب والقتال في حروب المليشيات وتكملة هذه الكلمات في ما بدأنا به هذا المقال. تذكّرت ذلك وأنا أقرأ كتاباً جميلاً عن الحرب الأهلية في سيراليون. قامت بترجمته مؤسسة محمد بن راشد المكتوم، التي تقوم بترجمة الأعمال المهمة في الآداب والفنون والعلوم، وقد قامت بترجمة هذا الكتاب الجميل والمفيد لصبي من سيراليون، الكتاب عنوانه " الطريق الطويل: مذكرات صبي مُجّند". مؤلف الكتاب هو صبي دخل القتال وهو صبي في الثانية عشرة من عمره، كمقاتل مع الجيش السيراليوني ضد الثواّر الذين كانوا يحاولون إسقاط رئيس الجمهورية المدني. لم يتطوّع الصبي والذي أسمه إشمائيل (اسماعيل) بيه، وقد ولد مسلماً و عاش مسلماً في بلده و لكنه عندما كبر وذهب إلى نيويورك أصبح مسيحياً حيث تبنّته سيدة أمريكية وهو طفل وأبقته في نيويورك، في الاممالمتحدة فأصبح مسيحياً. قصة هذا الصبي مؤلمة، وموجعة، فقد كان صبياً يعيش مع والده وشقيقه وزوجة أبية، بينما تعيش والدته وشقيقه الأصغر في نفس القرية ولكن في منزلٍ آخر، حيث انفصل والداه ولكن بقيت العلاقة بينهما جيدة ؛ وظل هو وشقيقه الأكبر يزوران والدتهما ويستمعتان بقضاء وقتٍ جميل معها ومع شقيقهما الأصغر. في أحد الأيام وهو يزور قرية جدته؛ والدة أمه سمع بأن الثوّار هجموا على قريته فهرب هو وشقيقه ومجموعة من رفاقه الأطفال من ضمنهم شقيقه وأصدقاء طفولة. هربوا وهم أطفال لا تزيد أعمارهم على الثانية عشرة، بل أن بعضهم كان في السابعة، ظلوّا يسيرون أياماً على أقدامهم لا يعرفون أين يذهبون، مروّا بظروفٍ صعبة؛ حيث أحياناً يبقون أياماً دون طعام أو حتى ماء، وفي مراتٍ أوشكوا على الهلاك ولكن قدرة الله أنجتهم. لم يكونوا يعرفون شيئاًعن أهلهم وعائلاتهم. كانوا أحياناً حين تضيق بهم الدنيا يجلسون ويبكون بحرارة على ضياعهم و عما يخبئه المستقبل لهم. أصبحوا يسرقون القرى التي يمرّون بها في الليالي المظلمة لكي يعيشوا أياماً على ما غنموه من السرقات التي لم تكن سوى أشياء بسيطة يأكلونها. في إحدى المرات وقعوا في أيدي أشخاص لم يعرفوا من هم؟. في البدء كاد الأشخاص الذين قبضوا عليهم أن يقتلوهم ولكن بعد أن تعرّفوا على هويتهم تركوهم و لكن اشترطوا عليهم أن يبقوا معهم كجنود. كان هؤلاء الأطفال لا يعرفون ماذا تُعني كلمة جندي أو مقاتل. فرحوا بالطعام الذي أعطاه لهم الضابط ( الملازم أول) المسؤول عن الفرقة التي في القرية التي بقي فيها إشمائيل ورفاقه الصغار، كان شقيقه قد فُقد خلال رحلاتهم التي استمرت أياماً طويلة، كانوا يفترقون عن بعضهم و يلتقون أحياناً وأحياناً أخرى لا يلتقي أفراد المجموعة. شعر الأطفال بالاستقرار في القرية التي يُسيّطر عليها الجيش، وأصبح يُطعمهم مما يُطعم جنوده، وكان إشمائيل و رفاقه يرون الجنود يُغادرون صباحاً وبعضهم لا يعود، فيعرف الأطفال بأن هناك أشخاصاً يموتون، وأن الجنود في هذه القرية يُقاتلون الثوّار الذي يُحيطون بهذه القرية التي يعيشون بها. في يوم لاحظ اشمائيل أن مزاج الملازم أول ليس على مايرام، كان غاضباً.. حانقاً، عيناه حمراوان، لا يستقر في مكانٍ .. كان قلقاً. طلب من جميع أهل القرية الحضور إلى الساحة العامة. تجمّع جميع من في القرية في الساحة. وقف الملازم أول ليخطب في أهل القرية. قال لهم إن الثّوار المسلحين أصبحوا كثرا، وأنهم ربما في يومٍ ما يستطيعون اقتحام القرية، لذلك يجب على شباب ورجال القرية القتال بجانب الجيش، وأن الأطفال الذي وصلوا هنا منذ أيام يجب عليهم أن يتدّربوا على حمل السلاح القتال وأن على نساء القرية أن يقمن بإعداد الأكل للمقاتلين. يقول اشمائيل بأن العريف أعطاهم سجائر مع الطعام ثم أحضر لهم حبوبا بيضاء قال لهم بأنهم سوف يستمتعون بهذه الحبوب البيضاء وسوف تُعطيهم طاقة تساعدهم على القتال. أخذوا من هذه الحبوب البيضاء وفعلاً شعروا بسعادة وأصبحوا يتناولون هذه الحبوب كل يوم وبشكلٍ غير محدود. أصبح الأطفال الذين في سن الطفولة يُقاتلون بوحشية. يصف اشمائيل كيف أن اثنين من رفاقة في السابعة من العمر لم يكونا يستطيعان حمل بندقية الكلاشينكوف لأنها أطول منهما، فكان العريف يُجبرهم على الجري بهذه البندقية!. أصبح الأطفال مُقاتلين شرسين، متوحشين ؛ يصف اشمائيل بعض المعارك التي خاضها هو ورفاقة الذين في الثانية عشرة من أعمارهم، كيف كانوا يذبحون الأعداء بالخناجر و كيف يقتلون الأسرى أيضاً ذبحاً، ويقيم العريف مسابقة بين من هو أسرع طفل في جزّ عنق العدو، كان اشمائيل هو الأسرع. في لحظات كان يجزّ عنق العدو بالحربة التي عادة تكون في مقدمة البندقية. كان سعيداً بالمخدرات المتوفّرة طوال اليوم في كل وقت؛ هناك الحبوب المنشطة البيضاء (الامفيتامين) بالإضافة إلى الكوكايين والحشيش والخمر وأشياء أخرى من المخدرات لا يعرف اشمائيل اسمها. لكنها كانت دائماً تُبقيه مُغيّباً، في حالةٍ من عدم الإدراك لما يقوم به. كان يفعل أفعالاً لايمكن له أن يتخيّل أنه سوف يقوم بها لو كان في وضعه الطبيعي. كان يبكي عندما كان يعيش عند والده في القرية لأمورٍ بسيطة ..تافهة. الآن أصبح شرساً، قاتلاً مستعداً لبقر بطون الحوامل من الأعداء، يتسلى بقتل المدنيين في القرى وهو يقهقه و زملاؤه برفقته. أصبح يقتل دون شعورٍ بأي ذنب أو تأنيب ضمير، بل على العكس كان يتوق للمعارك وأهم ما في الأمر أن يكون هناك مخدراتٍ متوفّرة على مدار الساعة. في يومٍ من الأيام جاء إلى القرية رجال بيض، يبدو أنهم من الاممالمتحدة أو منظمة اليونسيف. استقبلهم الملازم أول، وطلب من الجنود الأطفال أن يصطفوا في صفٍ أمامه. كان يسير وبرفقته الرجال الثلاثة البيض. كان الملازم أول يطلب من بعض الأطفال بالتقّدم خطوة إلى الأمام وعندما انتهى الطابور، كان اشمائيل ومجموعة من الأطفال في جهةٍ مع الرجال البيض الثلاثة وبقية الجنود الأطفال في أماكنهم. شرح الملازم أول الوضع الجديد لاشمائيل وزملائه الذين سوف يذهبون إلى المدينة حيث يعيشون حياة عادية بدلاً من العيش في الغابات، حياة قاسية لا تصلح لأطفالٍ مثلهم. شعر اشمائيل وبقية الرفاق الذين معه بالتشوّش؛ ماذا سيفعلون هناك وكيف ستكون حياتهم؟. وصلت السيارة التي تقلّهم ووضعوا في مراكز تأهيل، لكن الأعراض الانسحابية من المخدرات لم يحاول أحد علاجها. عانى اشمائيل من الأعراض الانسحابية، مرّ بتجربةٍ مريرة من أعراض انسحاب المخدرات من جسده، كاد أن يموت من الألم والمعاناة، ولكن تجاوز المرحلة الحرجة، لكنه لم يستطع التكيّف مع الحياة المدنية. كان يُريد المخدرات وحياة القتال في الغابات. كان في نفس مركز التأهيل أطفال من الثّوار أو المتمردين على الحكومة فأصبحت تقوم معارك بين الأطفال الذين كانوا يُقاتلون مع المتمردين والأطفال الذي كانوا يقاتلون مع الحكومة وفي احد المعارك في مركز التأهيل قُتل ما يُقارب سبعة أطفال وجُرح كثيرون فقررت الإدارة فصل كل طرف في مكانٍ بعيد عن الطرف الآخر. بعد فترة ذهب اشمائيل ليعيش مع عمه في فريتاون (عاصمة سيرليون) ويذهب إلى المدرسة، وكانت هناك جمعية تُريد أطفالاً من سيراليون يذهبون إلى نيويورك ليتحدّثوا عن تجربتهم كأطفال محاربين مع اطفالٍ من دولٍ أخرى، وقرر اشمائيل أن يتقدّم وفعلاً تم اختياره، وذهب إلى نيويورك وتحدّث أمام مسؤولين في الأممالمتحدة وأُعجبت به سيدة تعمل مع الأطفال و تبنّته وعاش في نيويورك و كتب هذا الكتاب عن تجربته كطفلٍ في الثانية عشرة، يتعاطي المخدرات بكمياتٍ كبيرة كي تساعده على القتال، فتحوّل إلى وحش يقتل بدون رحمة، و كاد أن يفقد حياته عندما توقّف فجأة عن المخدرات ولكنه في نهاية المطاف ذهب إلى نيويورك وأكمل تعليمه الجامعي وأصبح الآن يعمل مع الأممالمتحدة في نيويورك. إن العنف الجنوني في حروب المليشيات غالباً مايكون مصاحباً لاستخدام المخدرات، لذلك لا يستغربن أحد عندما يُفاجأ بأن مجموعات مُحاربة تقاتل لأسباب دينية يستخدم مقاتلوها المخدرات، فهذا لكي يُقاتل بجنون دون تفكير أو مشاعر إنسانية، إن المخدرات واستخدامها في الحروب أمرٌ ليس مُستغرباً ولكن نتيجة هذه العمل قد يكون كارثياً على الشخص الذي يتعاطى المخدرات، ويجب أن يعرف بأنه بحاجة إلى أن يُعالج من استخدام المخدرات في اماكن متخصصة في هذا الأمر.