من اليسير والسهل أن يكون للقصة أو الحكاية الشعبية هدف ومقصد واحد سواء كانت القصة حقيقية أو خيالية ، مثل هدف غرس الشجاعة في النفوس ، أو تنمية العفة ، أو حب الكرم ، أو حماية الجوار أوالتحذير من سلوك مرفوض أو تعزيز سلوك مقبول ....الخ فالتركيز على هدف ومقصد واحد ، أو حتى وحدة الموضوع الذي يتطرق له الكاتب أو المتكلم أو القاص يعتبر هو الشائع بل وهو الأسهل والأقرب للتناول حيث يركز القاص على هذا الجانب دون تشتت ، حتى أن المتلقي يمكنه أن يركز على هذا الهدف ويستوعبه سريعاً ويتأثر به . إلا أن في التعدد للأهداف والمقاصد فائدة أكثر واختصاراً لإيصال فضائل عديدة في أقصر وقت وبأقل جهد ، وبالتالي ليس كل شيء سهل يعد أكثر فائدة ولا وحدة الموضوع والهدف يكون دائما هو طريق الإبداع ، وإنما تعدد وتنوع الأهداف فيما يقدم من عمل يشكل جودة وإبداعاً أكثر في نواح عديدة ، ومن ذلك بعض القصص الشعبية التي أدرك أهمية مغزاها أجدادنا فحرصوا على رواية الجيد منها وأبدعوا أيضا في إيجاد الكثير المتخيل من تلك القصص . ولكي يتضح مثل هذا التنوع في تحقق العديد من الأهداف والمقاصد وتحصيلها من خلال قصة واحدة شعبية قصيرة توصل للمتلقي كمّا كبيرا من تلك المقاصد نورد هذه القصة وننتبه كم هي الفوائد والفضائل سنستخلصها في النهاية ، والقصة هي : أنه يروى عن رجل من أهل البادية واسمه معثم وقيل فائز ، كان يبحث في الصحراء والبر الفسيح بما فيه من روضات معشبة أو أماكن رعوية كافية ، عن مكان يقضي فيه وقت الربيع ( يربع فيه ) وفي الوقت نفسه يتمنى أن يكون بقربه أحد أو معه من يجاوره ، وذلك التعايش والتجاور فيه منعة وقوة وأنس وطمأنينة ، ومن المعلوم أن الكثرة والجماعة خير من القلة . ويريد الله أن يقابله رجل ليس معه سوى زوجته وابنته وحلاله ( الإبل ) ، له من الهدف نفسه ، فتوافقت حاجة كل منهما إلى الثاني في مكان خصب وبه ماء وفير كاف لقضاء وقت الربيع ، فأخبره معثم أنه مثله في العدد الأسري فعنده ابنته وزوجته ، فاتفقا على تلك المجاورة الطيبة . وفي الحقيقة ليس لدى معثم ، أو فائز بن غبين ، بنت ، ولكن لديه ولد هو : عقيل . ولكنه لو قال له ذلك فربما رفض مجاورته تخوفاً على عفة ابنته إن تعرض الابن لها ، وهو تخوف أو نسميه تحوطا قد يطرأ في بعض الأحيان حيث يتوخى الحذر ابتداء . وبما أن مدة الربيع قريبا من ثلاثة أشهر أو أربعة فقد رأى معثم أن يكتم الأمر على صاحبه ويجعل العلاقة بين الأسرتين المتجاورتين رسمية لايكون لها ذاك التداخل التي قد يكشف الأمر ، فيكسب بذلك قضاء فترة الربيع ، أما الفراق في الصحراء فيما بعد فلا مفر منه حتى بين القبيلة الواحدة كثيرة العدد . كما أنه يعرف حياء ولده وتحليه بالأخلاق ، وتربيته الحسنة ، ولثقته فيه أشار عليه بالرأي الذي يراه سديداً وهو : أن يتنكر ولده عقيل طيلة فترة التجاور الربيعي هذا في زي بنت ، أثناء خروجه ودخوله ورعي الغنم والإبل ، وأن لا يقترب كثيرا من ابنة جاره أو يكلمها بشكل يكشف أمره ، أو يقوم بأي تصرف لا يليق ، وأن يتحمل تلك المدة لحاجتهم إلى مجاورة صديقهم الجديد في هذه الصحراء التي تحتاج إلى مثل هذا التلاقي والتعاون وتكوين قوة وسندا . وبالطبع امتثل عقيل ونفذ ما يراد منه ، فكان لا يرفع عن وجهه اللثام ، ولا يقترب من بنت جارهم ، وأثناء نزولها في الغدير أو الماء للسقي أو للنظافة كان يدير وجهه عنها ويعطيها خلفه جالسا باتجاه مخالف لوجهتها بعيدا عن المكان أو ينشغل بالإبل . ومضت الأيام والوضع طبيعي ، والصحراء الواسعة تحتوي هاتين البنتين أو الراعيتين اللتين يظن أنهما كذلك . وقبل أن تشرف القصة على نهايتها بسلام وكتمان وأمان ، بين معثم وجاره على خاتمة يكون فيها السر مستوراً والفكرة طي الكتمان والتفرق على المعلومة نفسها التي بنيت عليها ، أغار قوم على إبل معثم وجارهم ، فحاولا استعادة ما نهب منهم بكل قوة دون فائدة ، فجاء دور عقيل الذي يرى الوضع ولن يصبر متنكرا في زي فتاة مهمتها رعي الغنم والإبل . فنزع ملابسه ولبس لباس الفرسان وركب الفرس وتبع حلالهم وأبلى بلاء حسناً ورده ، ملحقاً بالمغيرين خسائر كبيرة وملقنهم درسا لن ينسوه . فكانت المفاجأة ، ليس للأب والأم فقط بل للفتاة التي كانت ترعى معه ، وبدأت في مخيلة الوالدين هواجس الفترة السابقة تعيد صورها في الأذهان ، كانوا في صراع مع الشكوك والتساؤل والحيرة فيما جرى وما رأوه ، وبدأت تفسيرات لعلامات الاستفهام التي كانت تتوارد على كل من الأب والأم والفتاة ، منها التلاقي الحذر والعزلة لعقيل ( المتنكر ) عن كل من الجار والجارة ، والأكثر استغراباً وحيرة هي الفتاة الحقيقية التي بدأت تعي مواقف عقيل معها وهو الفتاة المتنكرة التي تبدو دوما في مكان بعيد وتبدي الكثير من التحفظات في الكلام والتصرفات والعلاقات ويبدو منها الحياء الزائد عن الحد ، فدوما مكانها قصي وانشغالها مستمر وتبدو دوما منصرفة لشغلها ومع إبلها ، مما أكبرت عقيل هذه الخصال في عينيها محترمة تلك المواقف التي بدت بشكل يدل على الأخلاق الحسنة والعفة البينة والسجايا الطيبة ، وهذا ما جعلها أخيرا تعيد حساباتها وتتعلق به كشهم صاحب حمية رفيع الخلق وفارس في الأداء والشجاعة غيور عليها وهي معه في معزل ، لا يمنعه من النظر إليها مانع ولا يحول بينه وبينها حائل ، لكنها العفة ، في هذا الفضاء الفسيح فلم يحاول يوماً أن يكشف منها غرة أو يطمع في علاقة غير نظيفة ولا حتى يقترب منها . ومع أنها ليست مستغربة تلك العفة والشرف وحفظ الجوار في المجتمع البدوي فهو حري بهذه الخصال وهو منبعها ، لكن عقيل ظهر بمظهر ومخبر متميز. أحبته هذه الفتاة بعد أن عرفت كل شيء عنه . ولكن والديها أصابتهما الدهشة ، وخاف عقيل ووالده أن يكون في نفوسهم شيء مما مضى ، فقال عقيل هذه الأبيات يوجهها لوالد الفتاة : ياعم والله ماجعلت الغطاوي ويشهد على ماقلت رب البريه عن طاري الشكات ولا الهقاوي حلفت لك والله رقيب عليه عن المشكه يازبون الجلاوي شاروا علي بشورهم والديه ويوم خذونا طيبين العزاوي دون العشاير مانهاب المنيه أما الفتاة فقالت أبياتا موجهة للفارس عقيل تقول فيها : هلا هلا باللي سلامه يداوي ماهو زبون للعلوم الرديه اشهد شهادة حق ماهو دناوي ولا شبوح العين للاجنبيه عقيل من شفته خجول حياوي من عرفتي ماباق غرة خويه فوق العبيه مثل فرخ النداوي ينف خيل القوم نف الرعيه ولعل الوضع الذي تبين في هذه اللحظات يبرر مثل هذا التخفي فلا يزيد الموقف إلا تقديرا واحتراما لمعثم وولده عقيل ، وأن رغبتهم في الأصل كانت مجاورة طيبة لا يخالطها تخوف أو هيبة ولا تزييف ولا زيف . وقد تمت على خير ما يرام . وتفرق كل منهم عن الآخر بعد الربيع ،كل عاد إلى قومه ، وهي عادة بعضهم إما أن يعود إلى حيث تجتمع القبيلة أو يقترب من بعض الأماكن التي يجد فيها الماء ليقضي فترة الجفاف حول أماكن الحضر أو بقية الموارد التي لا تجف ، وقد ذهبت الفتاة بقلب عقيل بل وربما ذهب أيضا عقيل بقلبها . وما لبث عقيل مدة يسيرة إلا ومرض دون علة ظاهرة ولا شكوى بينة فلما مرت ثلاث سنوات سعى والده في طب له . لكن الطبيب الشعبي وقيل إن اسمه : عيد ، تحير في أمره وتوهم علة فيه تحتاج إلى كي كعادة بعض الأطباء الشعبيين في زمن مضى لعل وعسى يكتب له الشفاء ، فلما أحمى على النار مخاطر الحديد أو قضباته قال عقيل : يامحمي المخطار ( أو المنشار ) بالنار خله اجروح قلبي حاميات مكاويه مابي مرض ياعيد لاشك عله من غير شفي ماطبيب يداويه ماطيب لو تحمى المخاطر بمله انا بلا قلبي على فقد غاليه الصاحب اللي عنده القلب كله علمي بدور العافيه قبل اخاويه واليوم مدري وين حروة محله فاتن ثلاث سنين ياعيد نرجيه ثم كواه عيد بالمخطر ، إذ لا سبيل عنده غير هذا فمشاعره وتعلقه عاطفياً بفتاة رحلت لا يوجد لها علاج في صيدلية الطب الشعبي ، ولا مقاييس لدى الأطباء تشفع له ، ولن يفيد فيه شيء ، فآخر الطب كما يقولون الكي ، وهاهو يكويه وينضجه أيضا . فقال عقيل : ياعيد لوكويتني مابي أوجاع ليتك عرفت بعلتي وش بلايه بلاي غرو طول قرنه يجي باع ياعيد دعني لا تبيح خفايه مادام منت لعلة القلب نفاع ياعيد مالك بي تحمل خطيه ياما عذلت القلب ياعيد ماطاع اطلب وربي مايخيب رجايه وتنتهي القصة بنهاية جميلة هي البحث عن ديارهم وخطبتها ثم زواج عقيل من الفتاة ، فأنجبت فارساً مثل أبيه عقيل . ومن الابيات التي قالتها الفتاه على فراقهم : ونختم القصة كاملة بما يضيف البهجة ، وبهذه الأبيات من قول الفتاة التي صارت زوجة لعقيل : أول نهاري دمع عيني عصيته وتالي نهاري دمع عيني عصاني وغارب قعودي من دموعي سقيته مثل هماليل البرد يوم جاني على الذي من بد حيه بغيته وهو الذي من بد حيي بغاني وسبعة مخاطر بالضماير كويته وسبعين مخطر بالضماير كواني وانا الذي طي الشويحي طويته وهو الذي طي البريسم طواني ( الشويحي : هو الحزام الذي يربط على الخصر ، أما البريسم فهي خيوط ناعمة ذات ألوان متعددة وأحجام مختلفة يصنع منها قماش شبيه بالحرير ) أما عقيل فيقول خاتمة النهاية : الشاهد الله زولكم مانسيته. وأنا ادري إن صويحبي ما نساني والشاهد الله بالردا مانصيته والله ما ناشت ثمانه ثماني وأنا الذي من نازح البعد جيته وجادوا علينا موجبين العواني الشر زال وشف بالي خذيته زان السعد واليوم ساعف زماني انتهت هذه القصة ، وهي لا تروى من باب التسلية فحسب وإنما لتحقيق المثل والمبادئ والفضائل الطيبة ويتحقق منها العديد من المقاصد والأهداف كما ذكرته قبل ومن ذلك : الكرم ، وحب الألفة ، وحسن الجوار ، وحفظ السر ، وطاعة الوالدين ، والحياء ، والشجاعة ، والحب العذري ، والتحكم في العواطف ، وحسن قيادة الأحاسيس والمشاعر ، وحسن التصرف ، وسرعة البديهة وحضور الرأي السديد ، وتوجيه قريحة الشعر فيما يفيد مع ضبط البوح ، وحب التجمع وكراهية التفرق ، والاعتراف بالميول وتوجيهها ، وحسن التعايش ، وتحمل المشقة والصبر عليها بالإضافة إلى خاتمة القصة المفرحة ثم التسلية .