لعل من أهم الدوافع والأهداف التي وراء عرض القصص في شعبيات تروى عن السابقين هي إيقاظ الحس الإيجابي والنهوض بالقيم والفضائل والمثل ، وتنمية الملاحظة وإكساب الناشئة وكذلك المتلقين بكل مستويات ثقافتهم وخبراتهم و أعمارهم دروساً تفيدهم في حياتهم . تنهض بهم سلوكاً قويماً وتربية حسنة، توصيهم هذه القصص بحفظ الجوار واحترام الآخر والتمسك بالأمانة والوفاء بالعهود والتأكيد على ثقافة العيب،ولهذا لا نجد في أي قصة أي تحريض على الخطأ ولا تمجيداً لارتكاب محظور أو تزيين الانحراف في النفوس . بل نجد العكس تماماً وهو مقت السلوك المشين وذمه ، والتوجيه والإرشاد ناحية البعد عنه كل البعد . وقد ذكرت القصص الشعبية أنواعا عديدة من السلوك المرفوض وعكسها المقبول والمحبوب ، فعرض ذاك في قالب أسود ، وعرضوا هذا في قوالب بيضاء مشرقة ، وهم بهذا يؤكدون وينادون و يدعون لجانب الخير والفضيلة ويحاربون جوانب الشر. أما الذي سأشير إليه هنا وأخصص المقالة له فهو سلوك قل أن يأتي في القصص الشعبية إلا في حالات نادرة محددة الأطر مخصصة الهدف ، وهو ( القتل ) فيلاحظ على القصص أنها تخلو من ذكر القتل بين إنسان وآخر، أو وضعه نهاية لها أو تقديمه كحل لأي مشكلة ولكنهم لا يستبعدون الموت أو الفقد أو الاختفاء ، وذلك لأنهم في الغالب يعرضون قصصهم مساءً والمستمعون لها جلهم من الأطفال ، لذا يختارون لهم ما يفرحهم ويشرح صدورهم ويدفعهم للتفاؤل واستقبال ليلة سعيدة وانتظار صباح مشرق ، وإن كانوا لا يهتمون كثيرا من التخويف بدافع الحماية لهم ، وهذه بلا شك سلبية لم يستطيعوا فيما مضى تجاوزوها . إنهم يدركون كثيرا من الجوانب التربوية الجيدة ويطبقونها سلوكاً مع أولادهم .فمعظم قصصهم عن الكرم والوفاء والصحبة الطيبة والنهايات الجميلة كل القصص الشعبية الحقيقية والخيالية التي ترد في الأدب الشعبي تحكي واقع المجتمع أو تحذر من تغيير واقعه أو ترتقي به إلى ما هو أفضل مما هو عليه وبالتالي فإنها تحث على مكارم الأخلاق في جملتها ، لكننا بين الفينة والأخرى نجد قصصا تنبني على القتل كأساس تدور القصة حوله ظاهرياً ، ولكن عندما نتمعن في القصة لا نجد القتل هدفا في حد ذاته ,لكنه جاء عدواناً في البداية وردا للعدوان أو حماية للعرض والشرف في النهاية . وبالتالي فإن الشرف وحماية العرض جاءت في القصص الشعبية تختم بالقتل تبغيضا له وتنفيرا منه وحرصا على تثبيت مكارم أخلاق حوله ، ليسود الشرف والعفة . وهنا يجدر ذكر قصة تواردت في قالبين بحسب رواتها من قديم وحديث ، فكان أبطالها عائلة تعيش في سعادة وهذه العائلة ممتدة ، بمعنى يعيش بينهم الكبار . وكان يتولى رعي الإبل ( الحلال ) مملوك لهم . ولكن هذاالمملوك طمع في الزوجة هكذا أعجب بها ليس لجمالها فحسب بل لتزيين الشيطان له طريق الخطيئة ، وتحين الفرصة يوماً بعد غياب أخيها ، حيث لم يهتم من البقية لكبر سنهم ، ما عدا الزوج ، فقد قتله أولا ، ثم قتل البقية وهرب بها مع كل الحلال من ( الإبل ) وفي رواية أخرى كان يصطحب معهما أختا صغيرة السن ، لعله كان يطمع في خدمتها لهم. واختفى تماماً في جزء قصي لا يعلم أين هو ، وفي مكان حصين يستطيع معه مراقبة المكان وحماية نفسه طول الزمان والبقاء فيه ما شاء الله أن يبقى في أمن وأمان . هنا نقف عند هذه الرواية التي هي السائدة عند الكثيرين ، باعتبار الزوجة مختطفة مقهورة ، ولكن الرواية الأخرى التي كان بعض كبار السن يروونها تغير من شخوص القصة في جعل هذه الزوجة راضية بالهرب موافقة على الجريمة ، وتصحبها الأخت الصغيرة المقهورة التي جعلوها في خدمتهم تحلب الإبل وتخدم في جلب الماء ومختلف أنواع العمل الذي يحتاجون إليه ، ولعلها إضافة من أجل مزيد من الغيظ على المملوك . وهذه الرواية تضيف لنا شخصية جديدة في القصة سيكون لها دورها وبغض النظر عن التركيبة العائلية للأسرة ومن بقي ومن قتل ومن رضي ومن لم يرض ، فالمهم الآن هو مطاردة المملوك والبحث عنه من أجل الاقتصاص منه وجعله عبرة لمن لا يعتبر ، فهذا محور القصة المهم وهو الهدف إذا القصاص لا يمكن أن يجعله يفلت بجريمته سالماً. جاء أخو البنت الصغرى يبحث عن الحلال والأهل فلم يجد أحدا في المكان وتيقن أن المملوك قد هرب بالحلال والمرأة ، وأنه كان طامعاً في ذلك منذ زمن . بدأت رحلة البحث والمتاعب من الأخ ولعل اسمه ( عمار ) كما سيتضح فيما بعد داخل القصيدة ، الذي لم يترك مكاناً إلا وبحث فيه ولا شخصاً إلا سأله ، ولا أثراً إلا تبعه ، ولا حيلة إلا احتالها. حتى كاد أن ييأس ولم يبق في مخيلته طريق ولا طريقة إلا جربها. ولكنه في إحدى مرات بحثه تنبه لأوكار الغربان ، قيل إنه استدل على هذه الفكرة من خلال رؤية امرأة تغزل صوفا ووبراً فعرف وبر إبله فسألها من أين أتيت بها ؟ فقالت : من أوكار الغربان في تلك الأشجار. فتحسس وتوجس صدقها وفحص الأوكار فوجد في بعضها أصوافاً و أوباراً من أوبار إبله بالفعل ، فعرف أنه قد بان له طريق نحو الحقيقة وكشف النهاية ولعل في هذه الجزئية من القصة تدريباً على دقة الملاحظة والتنبه لحقيقة تقول : بأن الجريمة لا تكتمل فهذه من ثغراتها التي لابد أن تحصل . أيضا تبين أن سكان الصحراء لديهم قدرة على تتبع الأثر والفراسة والاستفادة من كل شيء يمكن أن يفيد في الوصول إلى الحقيقة ، وأيضا فيها أن الطيور ذات منفعة للإنسان بشكل أو بآخر ، فليس بالضرورة أكل لحمها فقط فالغراب صار جزءاً من البحث ويحمل دليلاً، وقصة الغراب مع الإنسان قديمة . المهم أن عماراً تبع الغربان التي تذهب باتجاه معين ، حتى رأى بين فجاج الجبال راعية غنم صغيرة السن لم يعرفها ولم يتعرف عليها بداية ، ولكنه قرب منها وأسقته من الماء والحليب وقيل أنه استند حولها فصارت تفلي رأسه ، ( وهنا أضع بين قوسين توضيحا مهما لمثل هذا ، والذي قد يستغربه بعض القراء ، كيف تفلي المرأة رأس رجل في البر ؟!! ، ولكن مثل هذا قد يحصل في القديم ، ولا يستعاب ولا يتعدى الرجل على المرأة ولا يعتبر عند البعض عيباً ، وربما القصاصون يدخلون بعض مثل هذه المواقف فنسمع مثلها مع حفظ الكرامة وتمام العفة في الجميع وخاصة سكان الصحاري أو للدلالة على أن سن البنت صغيرة وليست بذات مطمع ) المهم في الأمر أن تلك الصغيرة ساحت دمعتها على خدها ثم سقط دمعها على رأس الرجل فتنبه لبكائها وحرقتها ، فسألها : لماذا تبكين ، مالذي هيج مكنون قلبك الكسير؟ قالت : تذكرت أخي ففي رأسه شامة مثل شامتك هذه ، فتحسستها وبينت موضع الشامة من رأس أخيها ، فتبين أنها هي أخته الصغرى التي هرب بها المملوك مع الزوجة التي قيل إنها وافقته وهربت معه وقيل اختطفها عنوة . أخبرته أنها تعيش في قهر من المملوك، وأنه حذر أشد الحذر وأنه لن يقوى عليه وحده ، إلا في وقت نزوله البئر لسقي الإبل . فرتب موعداً للقضاء عليه وقت نزوله البئر وعرف الوقت واختفى قريبا من البئر ، فلما نزل المملوك كعادته جاء الأخ مسرعاً وجذب الرشاء ( الحبل ) وبقي المملوك في البئر لا يمكن خروجه. فعرف أنه انتهى وأن من تمت مطاردته لابد أن يعثر عليه ، وأن المجرم له نهاية سيئة لا محالة حتى ولو اتبع كل الاحتياطات واتخذ كل حماية. فأخذ الأخ صخرة ليلقيها على رأس المملوك لكنه استوقفه ليقول أبياتاً تعد نهاية ما يقول ، وتشرح توقعه لمثل هذه النهاية وأن الأخ ما دله على المكان إلا الغراب فقال : يا عم يا عمار ألا وين جيتني ؟!! وأنا لاجي بين الجبال النوايف حبلت لغراب البين من عام الأول وعيا غراب البين ياطى الكفايف وبغيت أصيده بالتفق وانتبه لي وطار بوبرها في شبوره لفايف وعرفت يا عمار إنك تجيني والهم لاجئ بين الأضلاع خايف واليوم أنا حصلت ما كنت أريده ودنياي بعده ما عليها حسايف وافعل بعبدك بعد ذا ما تورى الأيام هذا طبعها في الطوايف يوم على الأضداد نار لظيّه ويوم على الإخوان هم و عرايف ولما انتهى من قوله ، قال الأخ له : بين رأسك ، فألقى عليه الصخرة وانتهى وقيل أنه ألحق به ولدين له والمرأة ، ورجع بأخته الصغرى . وهناك رواية أخرى تضيف فاصلا في القصة تبين أن المرأة لم تكن راضية بل مجبرة على ذلك بدليل قولها لأبيات توجههاللمملوك الذي هرب بها حيث تقول: يا طول ماني عمةٍ لك صبيحة واليوم يا (.....)الخطا صرت لي عم ومن أول في السوق تشري الذبيحة لأسيادك اللي كل ما دبروا تم لأهل العطايا والدلول المليحة وأهل السيوف اللي لعابينها دم ماتوا بغدر(.....) لا في فضيحة وراحوا لربٍ يكشف الهم والغم أرجيه يرحم طايح في مطيحة ويشفي غليلي في أسود الخال والعم بأخوي ذخري في الليالي الشحيحة هو بعد أبوي الأب والأخ والأم وأيا كانت القصة وشخوصها فيكفينا أنها تتمحور على ضرورة المحافظة على العفة والأمانة والشرف والخلق القويم وهذا يكفي ، وأن الخيانة تنتهي نهاية مأساوية. هكذا يريد أهلنا تعليمنا البعد عن الخيانة والغدر ويحذروننا منه ، ويوصوننا بالأخلاق الحميدة كما يؤكدها ديننا ، ونحن إذ نعرض القصة وأبياتها لنا الهدف نفسه ، لنزرع بذور الخير مع الحروف المقروءة .