للمرة الثانية أصادفه في «الميترو». رجل ستيني أسمر، ذو لحية لم تهذب قط. يحمل أكياسًا حوت بعض الصحف. ومظلة، ويرتدي ملابس سوداء مرقطة بألوان زاهية، ونظارة عتيقة ذات إطار أسود سميك، تخفي عيوناً شاهدت الكثير على هذه الأرض. يقف بالقرب من بوابة العربة، ويغني بصوت عال جميل، يغني الحياة..» أتبعني إلى حيث الحب .. إتبعني حيث الحلم الجميل» بين فينة وفينة يتوقف عن الغناء. ويتحدث مباشرة للجلوس من حوله، يقول لهم: غنوا معي فالحياة عابرة. يغني عن الحب والموت، آهات البشر تصدح عبر حنجرته التي علاها صدأ السنين، ينزل أحدهم من العربة، ينظر إلى المغني بامتعاض، فيصرخ به: أغرب عن وجهي. تدخل امرأة مع طفلتها، التي وبكل عفوية - بعد أن رأته يغني ويتراقص- تبسمت ورفعت يدها تحية له، فتبادلا ابتسامة حانية.. ماذا تريد أن تقول لي .. بماذا تريد أن تعدني؟ .. أريد إجازة من هذه الوعود، البعض يهز رأسه أو يحرك قدمه تفاعلا مع غنائه. آخرون يظهرون تململهم وامتعاضهم الصامت من خلال حركة الكتف أو تلميحات العيون والشفاة. أما الأغلب فلم يشعروا بوجوده أصلًا..» إنهم لا يعبأون بنا» قد تلمحه مرة أخرى، وقد لا تفعل. ربما استمر بالغناء، وربما توقف. لكن الحياة والبشر يستحقان من يقف برهة، يتجرد من ما هو يومي، ما هو روتين، ويحلق بالغناء للحظة. يندب حال البشر، ويرثي عالمهم الجميل الغريب، والقبيح المعتاد.