في الأسابيع التي سبقت الانتخابات البرلمانية التي جرت في مارس الماضي، فتح الزعماء في زيمبابوي مخزون بلادهم الوطني لتشجيع الناخبين وكسب رضاهم بكميات وفيرة من الوقود والذرة التي يصعب الحصول عليهما كما اغرقوا السوق بأوراق مالية جديدة أعادت الروح للشعب الفقير. ربما ساعد هذا الإجراء الحزب الحاكم والرئيس روبرت موغابي الذي تمكن من الحصول على ولاية أخرى للخمس سنوات القادمة. وانتهى الازدهار الاقتصادي بانتهاء الانتخابات وكشر الفقر عن أنيابه مجدداً مهدداً البلاد بانهيار كامل. في مدينة (بولاوايو) التي تعد ثاني أكبر مدينة في زيمبابوي، تمتد طوابير السيارات لأكثر من ربع ميل في انتظار دورها للوصول لمحطات الوقود. ويقضي بعض السائقين ليلتهم داخل سياراتهم خشية أن يفقدوا دورهم في اليوم التالي. ويواجه الجميع المشكلة نفسها فيما يتعلق بالحصول على حصصهم من الحليب أو غاز الطبخ أو حتى الذرة التي كانت تعد أحد المنتجات الرئيسية للبلاد. وأصبحت البقالات شيئا من الماضي فالتجار لا يستطيعون العثور على شيء ليبيعوه على المستهلكين.. واصبح معجون الأسنان المستورد أثمن ما يمكن بيعه لذا وضعوه داخل صناديق خاصة لحمايته من أيدي اللصوص. عملة زيمبابوي عانت هي الأخرى كثيراً من هذا الانهيار الاقتصادي وتذبذب سعر الصرف مقابل الدولار الأمريكي بشكل مخيف خاصة في السوق السوداء. ففي أبريل 2002 كان الدولار الأمريكي الواحد يعادل 120 دولار زيمبابوي في تعاملات السوق السوداء، وفي ديسمبر الماضي اصبح الدولار الأمريكي يعادل 6,200 دولار زيمبابوي ثم 12,000 في أبريل الماضي و17,000 في أوائل مايو واستقر الآن على 20,000 دولار زيمبابوي مقابل الدولار الأمريكي الواحد. ولكن الحكومة حاولت الإبقاء على سعر صرف رسمي وصل إلى حوالي 6,100 دولار زيمبابوي لكل دولار أمريكي واحد وذلك حتى وقت قريب. ثم أعلن المصرف الوطني عن تخفيض جديد ويقول الجميع أن السعر سيصبح 9,000 لكل دولار أمريكي. هذا الوضع المتذبذب لا يرضي كثيرا من التجار في البلاد وقال أحد أصحاب المصانع في مدينة بولاوايو «الأمر خارج عن السيطرة.. نحن في طريق السقوط نحو الهاوية. وبإمكاننا الصمود بوضع الرقع على الإطارات .. رقعة ورقعة ورقعة..لكن في النهاية الإطار سينفجر وسينتهي كل شيء». كثير من مديري الشركات الذين أجريت معهم مقابلات لصالح هذا المقال رفضوا ذكر أسمائهم خشية أن يؤدي نقدهم لسياسة بلادهم الاقتصادية إلى حرمانهم من المساعدات الحكومية حتى وإن كانت شحيحة للغاية. ولكن من بينهم خرج مثابر واحد يدعى جون روبرتسون وهو اقتصادي حكومي سابق وكشف أن الحكومة استنزفت احتياطاتها في الانفاق على الحملات الانتخابية قبل انطلاقها، واليوم على الحكومة أن تدفع ثمن ذلك التصرف. ولسنوات طويلة، كان الاقتصاد في زيمبابوي على كف عفريت كما يحلو للبعض وصفه.. فمعدل البطالة وصل إلى 70٪ وعانت البلاد من تضخم مالي بمعدل ثلاثة أرقام وأصبحت العملة المحلية مرفوضة خارج البلاد وبات التعامل بها مخاطرة كبيرة لكل مستثمر أجنبي. وتوقف النمو الاقتصادي في نهاية التسعينيات عندما شنت الحكومة هجماتها على الدائنين الدوليين وأوقفت أنشطتهم وهو الأمر الذي سبب ردة فعل اقتصادية سلبية على البلاد. وأثار الهبوط الاقتصادي الكثير من المشاكل في عدد من المدن الرئيسية حيث اندلعت معارك من أجل الحصول على لقمة العيش أو الغاز وأحياناً أخرى كانت الحكومة مضطرة لإرسال الجنود من أجل فك الاعتصامات التي ينظمها محتجون أمام المتاجر ومحطات الوقود أو للقبض على تجار السوق السوداء الذين يتعاملون وبشكل مفتوح بالأوراق المالية ويبيعونها وفق نسب محظورة. وعلى الرغم من كل هذا، عبر البعض عن تفاؤلهم من أن الأزمة مقبلة على نقطة تحول كفيلة بإصلاح الكثير. وأهم تلك المشاكل التي تنتظر حلولاً عاجلة هي ما يتعلق بهروب رؤوس الأموال والتضخم السريع كما ينتظر الجميع إجراءات سريعة لإعادة إحياء البنية الزراعية والصناعية في البلاد. ولكن أعمال التصنيع تباطأت بشكل كبير إلى درجة أنها توشك على التوقف بالكامل، ويرجع السبب إلى نقص الوقود من أجل تشغيل الآلات وعدم قدرة أصحاب المصانع على استيراد المكونات وقطع الغيار.وقيدت الأعمال التجارية وأضافت السوق السوداء المزيد من المشاكل للاقتصاد المحلي. وأصبحت نداءات السكان والتجار للمساعدة الحكومية غير مثمرة في الغالب..فالحكومة نفسها تحتاج للمساعدة العاجلة. وأضاف السيد روبرتسون في المقابلة التي أجريت معه في العاصمة هراري «أصبح النقص يأتي من المنتجين الذين يعول عليهم الباعة كثيراً. فهم لا يستطيعون تسليم منتجات تكفي لملء رفوف التجار». وأوضح أن المشكلة كانت مبدئياً أن المنتجين لم يكونوا قادرين على تجهيز المنتجات بشكل سريع لمواجهة حركة الاستهلاك النشطة. ثم واجهتهم ورطة كبيرة تجسدت في نقص الوقود اللازم لتشغيل المصانع.. والنتيجة النهائية ستكون ارتفاع الأسعار بشكل فاحش. في الأسبوع الأول من شهر مايو الجاري، انتشرت إشاعة بين سكان العاصمة هراري بأن شحنة كبيرة من السكر في طريقها للمدينة. هذه المعلومة البسيطة خلقت طوابير من البشر امتدت لأكثر من نصف ميل أمام بوابة أحد المتاجر المركزية. وقال السيد روبرتسون ساخراً «المشكلة الحقيقية كانت في عدم توفر أكياس نايلون لأخذ السكر من المتجر.. هناك نقص في كل شيء قد يخطر على بالك». تكمن مشكلة زيمبابوي أيضاً بأنها استنفدت العملات الأجنبية. ولكن هذه المشكلة ليست سوى قطعة دومينو واحدة في سلسلة من القطع التي يهددها السقوط وتشكل خطراً كبيراً على الاقتصاد في البلاد. ويتذكر الجميع كيف كانت الصادرات الزراعية تشكل ركناً أساسياً في الاقتصاد المحلي. ولكن في السنوات الخمس الأخيرة أدى توزيع أكثر من 5,000 مزرعة تجارية على الفلاحين وواضعي اليد إلى تدمير كل الأعمال التجارية التي كان الجميع يحلم بها من خلال استغلال تلك الأراضي. ويكفي أن تعلم أن المزارعين يحتاجون لأكثر من 50 ألف جرّار ولكن هناك أقل من 400 صالحة للعمل. ومشاكل مثل هذه تسببت في انهيار الصادرات وانخفض إنتاج التبغ الذي كانت البلاد تعول عليه كثيراً بنحو الثلثين خلال السنوات الخمس الأخيرة. وحتى الكمية المتوفرة تكاد تفتقر للجودة بحيث امتنع المشترون الأجانب عن شرائها. هبوط الصادرات رفع من قيمة العملات الأجنبية وارتفعت أسعار الصرف. ولكن الحكومة اختارت أن تطبع المزيد من الأوراق المالية بدلاً من تقديم مبادرة تساهم في إعادة القيمة للعملة المحلية.. وبالتالي ارتفع معدل توفر النقد بنسبة 226بالمائة وبدأت آثار التضخم بالظهور. أول تلك الآثار كانت ازدهار السوق السوداء بالنقد والسلع وتقلب سعر الصرف بشكل مخيف مما أدى إلى إصابة صناعات تعدين الذهب بالشلل وتوقفها وهو ما ساهم في تدني الإنتاج المحلي بنسبة 18بالمائة في الربع الأول من 2005م. حين قررت الحكومة خفض سعر الصرف للعملة المحلية مقابل الدولار لم يدر بخلدهم أن هذه الخطوة ستساهم بشكل كبير في التأثير على صادرات الذهب والقطن والتي أصبحت تواجه انهياراً.. فسقوط تجارة القطن يعني توقف صناعة المنسوجات التي يعتمد عليها الكثيرون في زيمبابوي. وذكر مصدر مسؤول في الحكومة أن هناك خطة لتحديد ميزانية كافية لشراء الحبوب لتفادي مجاعة محتملة بسبب فشل استغلال المساحات الزراعية. وتحتاج زيمبابوي أكثر من 1,6 مليون طن من الحبوب سنوياً، بينما تستعد الحكومة لشراء 1,2 مليون طن.ولا يعرف أحد كيف ستدبر الحكومة النقد الأجنبي لشراء تلك الأطنان من الحبوب من الخارج. ولكن من الواضح أن لا أحد قادر على إيقاف التضخم وفيضان الأصفار التي لخبطت أوراق الصفقات التجارية بعد أن تحولت الأرقام من المليارات إلى التريليونات.. ويبدو أنها آخذة في الازدياد دون توقف. ٭ (نيويورك تايمز)