يكثر الحوار والمناقشات في مجالسنا ومنتدياتنا بل وقاعات الاجتماعات الرسمية والأهلية حول تدني القيم الأخلاقية وظهور بعض الممارسات السلبية في أخلاق وتصرفات الكثير من الأفراد في مجتمعنا واعمالنا . فالمواعيد لا يحترم فيها الوقت بل قد تخلف تماما , والصدق والوضوح في التعامل اصبح قليلا , وتلحظ مع الأسف الشديد تدني احترام القيم الإنسانية وضعف العلاقات الاجتماعية وعدم الاهتمام بصلة الرحم , ومثل ذلك التجاوز على حقوق الناس وخصوصياتهم بصور متعددة اصبحنا نسمعه ونشاهده كثيرا , والالتزام بالجد والاتقان في أداء العمل لا يتوفر الا عند القليل من الموظفين والعاملين , ولو تحدثنا عن صور الإجرام والمخالفات المتعددة التي تمتلئ بأخبارها المجالس ووسائل الإعلام لما كفانا مقال قصير كهذا . وارجو ألا يفهم من مقدمتي أنني أنشد مجتمعا ملائكيا لايخطيء فهذا من المستحيلات ، ولكنني أشعر أننا في مثل مجتمعنا المسلم المحافظ حريون أكثر من غيرنا بالحرص على الأخلاق الفاضلة بكل صورها قولا وعملا وسلوكا , لإننا نتعبد بالحرص على هذه الأخلاق الفاضلة دينيا ونعتز بها تراثا وحضارة , فلماذا اهمل الكثير من افراد المجتمع بل ابتعد عن تعاليم الدين الإسلامي الحنيف وقيم المجتمع في أهم مقومات شخصية الإنسان وحياة المجتمع كله وهي الأخلاق الفاضلة وكل ما يندرج حول هذا الوصف من انواع التعامل الإنساني الفاضل المرغوب قولا وعملا وسلوكا. ويزيد من مرارة هذا التدني في الإلتزام بالقيم الإخلاقية السامية ما أصبحنا نشاهده أحيانا من جرأة في ارتكاب المخالفات الدينية والخلقية ومن ذلك المرورية والعملية , واصبح انكار مثل هذه المخالفات والممارسات الخاطئة محل تردد الكثير من الناس خوفا من عواقب الحديث مع بعض مرتبكي هذه المخالفات او الاحتكاك بهم , لأن لدى بعض من هؤلاء المخالفين الجرأة على الرد والشجار احيانا , بل قد تشاهد مع الأسف الشديد من بعض المخالفين ولاسيما الشباب من يظهر زهوه واعجابه بقدرته على القيام بالمخالفة او التهور وسوء الخلق , فتجد احدهم يحدثك عن انجازه لأعماله بطرق غير مشروعة , وآخر يحدث غيره عن مغامرات وتجاوزات أخلاقية , او ذلك السائق الذي يقود سيارته في المسار الأيمن الخالي من السيارات حتى يصل المقدمة ثم يعرض سيارته امام الجميع دون خجل وفي مكان لايرى فيه إشارة المرور عندما تكون خضراء فيتأخر في التحرك ويعوق سير الجميع . وتعجب كثيرا عند الحديث عن تدني القيم الحميدة لدى بعض افراد المجتمع لأنك ستلاحظ ان كل الأصوات والآراء في مجالسنا وحواراتنا ومناقشاتنا الرسمية تعارض بل تشجب الممارسات الخاطئة التي يقوم بها الآخرون , لكن بعض او أكثر من يتحدث عن هذا التدني في الأخلاق والسوء في التعامل يمارس الخطأ نفسه ، قصدا منه احيانا وهذا قليل إن شاء الله , او سهوا وخطأ وهو الأعم الأشمل من ممارساتنا الخاطئة , وأقول سهوا لأنني على يقين أن الكثير من الناس لا يحب ارتكاب الأخطاء لكنه مع الأسف الشديد تربى عليها ثم تعود عليها ، واصبحت التجاوزات وارتكاب الأخطاء بالنسبة له اسلوب حياة وطريقة تعامل . وإذا كان الكثير ممن يرتكبون المخالفات لايقصدونها عنوة وانما تعودوا عليها حتى أصبحوا يمارسونها بعفوية ، فكيف وصل بمثل هؤلاء الحال الى هذا الخلل الأخلاقي ؟ وأنا في هذا المقال القصير لا أحلل علميا هذه الظواهر الاجتماعية , فهذا جهد تقوم به جامعاتنا ومراكز البحوث وكراسي البحث العلمية مثل كرسي الأمير نايف للقيم بجامعة الملك عبدالعزيز, كما أني ادرك جازما أن الأسباب والعوامل متعددة , لكنني أشعر أن واحدا من أهم العوامل والأسباب لتدني القيم الحميدة لدى البعض لم يحظ بالاهتمام الذي يستحقه , وأعني بذلك ضعف التزامنا بحق الطفل في التربية السليمة ومراعاة الوقت المناسب لخصائص الطفل وتربيته . والوقت المناسب بل أهم السنوات لتربية الطفل وتأصيل القيم الحميدة لديه هي مرحلة الطفولة المبكرة خلال سنوات عمره الست الأولى , وحق الطفل في التربية يتطلب جهدا واهتماما ، وله أدوات وأساليب تربوية عديدة أهمها احترام شخصية الطفل والقدوة الحسنة له من الكبار فيما يشاهد ويسمع . لقد أكد أهمية سنوات الطفولة المبكرة الكثير من العلماء قديما وحديثا وأشار العديد من علماء الطفولة الى أن أكثر خصائص الإنسان وملامحه الشخصية تتشكل خلال سنوات عمره الست الأولى , ولاسيما الخصائص النفسية واللغوية والخلقية , وتكتمل شخصية الإنسان فيما بعد هذه السنوات من خلال برامج التربية والتعليم وعوامل التأثر والتأثير الأخرى التي تتوفر للطفل في سنوات حياته اللاحقة , وخاصة بقية سنوات الطفولة حتى يتجاوز مرحلة المراهقة ما بين السادسة عشرة والثامنة عشرة من عمر الإنسان . وإذا كانت القدوة الحسنة واحترام شخصية الطفل من أهم اساليب التربية , وإذا كان أفضل السنوات لتأصيل القيم الحميدة هي سنوات الطفل الست الأولى , فما حال الكثير من اطفالنا في هذه المرحلة في أيامنا هذه ؟ وكيف يتعامل الكبار فيما بينهم امام الصغار ومعهم ؟ لكل واحد منا أن يتصور بعض المواقف والأساليب داخل الكثير من بيوتنا في تعاملنا مع اطفالنا في سنواتهم الست الأولى . بأي أسلوب يتحاورالكبار مثلا امام الطفل ومعه ؟ إن كان الحوارهادئا فيه تبادل للآراء وقبولا للأصلح منها وتنازلا من الطرف الآخرفسيتعلم الطفل هذا الأسلوب ويكبر عليه , هل ننصت للطفل باهتمام عندما يتحدث الينا مهما كان حالنا وانشغالنا ثم نجيبه بما يمكنه فهمه او نشرح له بتبسيط مناسب ما لا يفهمه وهو كثير؟ كما نعامله في حوارنا معه سيعامل به الآخرين عندما يكبر. كم مرة وعدنا الطفل في مواقف مختلفة بتلبية الكثير من طلبات الأطفال المتعددة ومن دون أي اهتمام بالموضوع أخلفنا الوعد ظنا منا أن الطفل صغير لا يدرك او أنه قد ينسى , بينما نحن نعلمه بهذا التعامل أن اخلاف الوعد أمر طبيعي ثم سيكبر على ذلك . هل يرى الطفل صور المودة والتراحم والتعاون وحب المساعدة بين أفراد العائلة ومع الآخرين ، أم يرى صورا على النقيض من ذلك ؟ الطفل يراقب تعامل أفراد أسرته مع بعضهم ومع الآخرين ويعي هذه الصور في ذهنه فيتربى ويكبرعلى ما يشاهد ويسمع من أفعال وأقوال . اللغة التي يسمعها الطفل بين الثانية والرابعة من عمره هي التي تصبح لغته الأساس وما يتعلمه بعدها يصبح لغة ثانية , وهذه من خصائص نمو الدماغ في هذا العمر كما ابدعه الخالق العظيم , ولعل ذلك يذكرنا بعادة العرب منذ الجاهلية بارسال اطفالهم بهذه السن الى البادية , ومنهم رسول الله ( عليه الصلاة والسلام ) ليتعلموا العربية خارج مكة التي يتردد عليها وافدون يتحدثون لغات ولهجات اخرى , وعندما يتعلم الأطفال اللغة العربية الفصحى بهذه السن المبكرة لايلحنوا أبدا , فما هي اللغة التي يسمعها اطفالنا في طفولتهم المبكرة في وقتنا الحاضر ؟ هذه تساؤلات ونماذج فقط حول حال أطفالنا في مرحلة طفولتهم المبكرة ، ذكرتها على سبيل المثال لتساعد في مراجعة مدى قيامنا بحق أطفالنا في التربية السليمة ومدى مراعاتنا للوقت المناسب لخصائص الطفل واحتياجاته بعد التعرف عليها وفهمها . ولندرك ايضا أن الكثير مما نشاهده من تجاوزات في الأخلاق والسلوك في شبابنا وكبارنا قد يكونوا اكتسبوه منا في صغرهم كما اكتسبناه من آبائنا في الغالب . ولاشك أن كل مسؤول عن الأطفال ولا سيما الوالدين ينشدون الخير لإطفالهم ويأملون لهم خلقا فاضلا وحياة كريمة , لكن معظم ما نرتكبه من تعامل وسلوكيات خاطئة مع أطفالنا في الكثير من البيوت مرده الجهل بخصائص الطفولة واحتياجاتها والوقت المناسب لتنمية كل خاصية او موهبة ، او تعليم وتأصيل ما نرغبه من خلق او فضيلة ، وهذا يؤكد ضعف الوعي لدى الكثير منا بحقوق الأطفال علينا , وجهل الكثير من أولياء الأطفال بالأساليب الصحيحة للتربية والتقويم . ويتوازى مع ضعف الاهتمام والوعي بالطفولة المبكرة بين أفراد المجتمع ضعف في البرامج الرسمية حكومية وأهلية بهذه المرحلة العمرية المبكرة . فالعناية والاهتمام الذي توليه خطط التنمية الوطنية للتنمية البشرية واضح ومقدر, لكن هذا الاهتمام يركز على برامج التعليم والتدريب ، ولمراحل عمرية متقدمة ، ولا تحظى مجالات التربية بالقدر نفسه وعلى الأخص البرامج التربوية الموجهه للأطفال في سنواتهم الأولى . ورغم أهمية ما قد يوفر للإنسان من تعليم او تدريب في مراحل أخرى من حياته لتعديل السلوك ونمو الشخصية إلا أنه لا يوازي أهمية تأصيل القيم لدى الطفل في سنوات طفولته المبكرة , ولعل ما نلمسه كثيرا من سلوكيات خاطئة من بعض شبابنا وكبارنا ممن تعلموا وتدربوا يؤكد الحاجة الى بدء حلقات التخطيط للتنمية البشرية بالحلقة الأهم والأساس وهي حلقة الطفولة المبكرة . إن ذهاب الطفل الى المدرسة يأتي في سن السادسة غالبا , وفي هذا العمر ينبغي أن يكون الطفل قد اكتسب عددا من القيم الجيدة التي تساعده على الاستفادة من المدرسة تربية وتعلما , فلابد مثلا أن يكون قادرا على خلق العلاقات الشخصية مع الاخرين ليتعامل مع معلميه وأقرانه , ولابد أن يكون محبا للمعرفة مقدرا لمن يعلمه . هل تربى أطفالك على احترام الآخرين والبحث عن المعرفة باسلوب جيد قبل أن يلتحق بالمدرسة ؟ هل هيأت أطفالك لكي تسمع من معلميهم قولهم إن أبناءك مؤدبون، ويتحلون بالدماثة واللطف مع أصدقائهم ومع الجميع ؟ لا شك أن كل واحد منا يحرص على سماع ذلك بقدر الحرص على تفوقهم دراسيا ، ولتحقيق ذلك لابد أن ندرك أن الأطفال في حاجة لأن يكونوا اولا أناسًا جيدين تربية وخلقا حتى يصبحوا طلابًا ممتازين دراسيا , وتأصيل الأخلاق والقيم الجيدة لابد أن تسبق سنوات التعليم والتدريب . إن الجهود التي تقوم بها الجهات المعنية , حكومية وأهلية , للأطفال في سنواتهم المبكرة قليلة ومتناثرة , وينقصها التنسيق والتواصل أوالاستمرار, بينما تتطلب الجهود التربوية والإعلامية التي تهدف الى رفع الوعي بين أفراد المجتمع بأهمية مرحلة الطفولة وعلى الأخص المبكرة منها تتطلب مشاركة كل جهة لها صلة بأي حق من حقوق الأطفال التي أوجبها الدين الإسلامي و حددتها الإتفاقيات الدولية والإقليمية لحقوق الطفل , وهذا التعدد في الجهات المسؤولة يوجب وضع أطر وآليات للتنسيق والتعاون والتكامل بين هذه الجهود ضمن خطة وبرامج عمل وطنية تمتد لسنوات , لأن برامج تعزيز الوعي بأهمية التربية في مرحلة عمرية مبكرة وتأصيل السلوك القويم لا يمكن أن تتحقق في سنة او سنتين بل تتطلب جهدا ووقتا لتؤتي ثمارها ويلمس الناس على الأقل بدايات ايجابياتها ثم يشعروا لاحقا بلذة الاستمتاع بالتعامل بالأخلاق الفاضلة الى أن تصبح أسلوب حياة , وفي هذه الحياة ينعم الأطفال ببيئة أسرية تربوية تمكنهم من الاستمتاع بمرحلة الطفولة الجميلة ، وتمكن الوالدين وكل مسؤول عن الأطفال من زرع القيم الخلقية الجميلة وتنمية المهارات الإيجابية التي تساعد الطفل لاحقا على الحياة الكريمة والمساهمة الإيجابية في أسرته ومجتمعه . * عضو مجلس الشورى