في الأسبوع الماضي كان العتاب من ابن لامه لمغادرتها منزله مغاضبة، واليوم يجيء العتاب من ابن لأبيه، وفي كلا العتابين أدب أبدعه البر بالوالدين، وشذبته عاطفة رقيقة المشاعر رفيعة التهذيب، بعيدة الرؤى. اتسم عتاب الأم بالرحمة والاشفاق واستلانة جانب الأم اتقاء عذاب الآخرة الذي يخشاه الابن ولا ترضاه الأم لابنها، ويجيء عتاب الأب متوجاً بمديح يليق به واعتزاز بالنفس يبعث الطمأنينة في الأب بألا خوف على الابن من مواجهة مستقبل مجهول. ويتضمن العتابان صورتين اجتماعيتين الأول لابن يجاهد الحياة في سبيل لقمة العيش وهو «الكليف»، والثاني ابن عز وسيادة وهو شاعرنا اليوم «بركات الشريف»، والذي لا يعنينا من أمره غير النص الشعري في العتاب، فقد حيك حول الشاعر من القصص ما يقترب من الاساطير، وسعى الدكتور سعد الصويان لجلاء حقيقة ما قيل حول الشاعر بالتناول والتحليل في كتابه: «الشعر النبطي ذائقة الشعب وسلطة النص»، مستخرجا مما قيل عن الشاعر ومن قصائده ما يعزز تحليلاته ويجلو الحقيقة التائهة بين الروايات وتجاهل المؤرخين تلك الحقبة التي شهد الشاعر أحداثها. وخلاصة ما انتهينا إليه أن الشاعر تلقى لوماً وتعنيفا من أبيه على مشهد من جلسائه إذ دعاه يا «ثبر» فشق ذلك على الابن الفارس وآلمه إيلاماً وأشد ايلاماً لو استقبلها الشاعر استقبالاً عابراً وعدها مما يستنهض به الآباء أبناءهم، وأشد إحراجاً أن يدافع عن نفسه أو أن يواجه أباه لوما بلوم، فقرر الاغتراب عن مجتمع شهد إهانته. ولكن من الصعب التصديق بأن كلمة «ثبر» كانت سبباً وحيداً في غضبة الفارس الذي عرف برجاحة العقل وعلو الهمة وحسن التدبير، فلا بد من أن يكون هناك أسباب أخرى غير ذلك، ولكن «ثبر» كانت قاصمة ظهر البعير أو انها غطاء لخلاف يتجاوز الثبر، وهي كلمة شائعة ومألوفة في ذلك المجتمع وليست بالغة التأثير لدرجة المجافاة والرحيل. على أية حال غادر الشاعر الحي، وعجل بارسال قصيدة وداع وعتاب إلى أبيه: ولا قلته الاّ والركايب زوالف عن الواش والحساد والنجم قاطبة والقصيدة ربما تجسد لونا من ألوان التربية القاسية في زمن شعاره: «إذا لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب»، وتمثل أيضاً ردود الفعل من ذوي الأنفة. والناس يستكثرون من أبناء السادة الميعة والخنوع والتخاذل ومجانبة مثل النجابة والفروسية، لأنهم من أهل الزعامة والرئاسة. رحل الابن تعبيراً عن عزة نفس ورغبة في إثبات وجود دون الاعتماد على صلات قرابة، وكان لابد له من كلمة يلقيها بين يدي والده فصاغ قصيدة عتاب مبينا معاناته وهو يتخذ قرار الرحيل، ومبديا مبررات اغترابه، ومعلنا علو همته ومتوجا القصيدة بمديح يليق بأبيه: عفا الله عن عين للاغضا محاربة وقلب دنيف زايد الهم شاعبه أساهر إلى نام المعافى ومد معي قد انهل من فوق النظيرين ساكبه واقول لما عيل صبري ولج بي رفيق شفيق جيّدات مذاهبة: دع العذل عني يا نصوحي وخلّني فشرواك لا يرضى هوانا لصاحبه كان الألم يمنع الغمض عن عينيه، والهم يفري فؤاده، وعذل الصديق للتخفيف من مأساة الشاعر لا يتوقف، ولكنه الهوان والاحباط اللذان يصعب على فارس الاستسلام لهما، فما أشق على الإنسان من ظلم ذوي القربى، فكيف إذا أتى الظلم من أب لا تخفى عنه نجابة ابنه، ولا ولاؤه له. ومن ثم ينتقل إلى مديح أبيه: فيا مبلغاً عني ذوى الجود والسخا ومن شب شارات المعالي مكاسبه مبارك زبون الجاذيات ابن مطلب ذرا الجار والجالين عن كل نايبة إلى قوله: يا كعبة الوفّاد للضيف بالقسا اذا النذل ذل ولا ذ واغضى بحاجبه إلى قل در المرزمات وأجدبت وقل الحيا واوقات الامحال كاهبة بنيت لنا بيتاً من العز شامخ سل الله ألاّ يهدم الضد جانبه وبعد التمهيد والمديح اللائق يدخل الشاعر إلى موضوع العتاب وتبرير الرحيل: فلا شك جاني منك ملفوظ كلمة على حضرة الرمّاق والخلق قاطبة تقول لي: يا ثَبْر وانا غذوّتك ولا ثبر الا من يفاجي قرايبه ولا ثَبْر إلاّ من يهدد وينثني في ساعة والهوش حامى جوانبه ثم يضيف ما يمكن اعتباره قضية أخرى وهو العتاب بلا مبرر: أراك تعاتبني ولا دست زلة والغير لو داس الخنا ما تعاتبه ترى عرق وجهي ثم جاهي وشيمتي معي حاضرة بالوجه ما هى بغايبة ولاني غويٍّ بك ولا بي سفاهة عزيز ولا نفسي لدنياك طالبة عتاب وإبانة عن أسباب الغضب والرحيل وفي ذلك عزة نفس. والأب يعاتب ابنه أملاً في نجابته، ولا يعاتب غيره لأن أمر غيره لا يهمه قدر اهتمامه بتربية ابنه. ثم يبين الشاعر أنه اختار البعد والنزوح لأن نفسه لا تقبل الاهانة: وانا اخترت بعد الدار في نازح النيا ولا قولةٍ «بركات» قد هين جانبه وفي كل دار للرجال معيشه والارزاق كافلها جزال وهايبه وربك ولو كثرت خطوبي فإنني صبيّ الشقا مالان للضد جانبه ويظل الاعتزاز بالنفس ديدن الشاعر الذي لا يخشى الخطوب فقد واجه من الصعاب ما عوده على مواجهة المكاره والخروج من مآزقها منتصرا. ويطلب من والده أن يذكره ويرسل في طلبه لو احتاج إليه في يوم كريهة، فليس الرحيل قطيعة، وإنما هو اعطاء النفس فسحة من الوقت والتجربة: عساك تذكرني إلى جاك ضيقة وجا المال يحدى جافل من معازبه ولا ينسى اعتداده بنفسه والتنويه عن فروسيته وإقدامه، وفرحة أصدقائه بحضوره عند الملمات لشجاعته وعونهم، كما لا ينسى حصانه من مديح كره وفره وسرعته وجلده، ويؤكد أخيراً أن لا مقام للفارس بين من يحقره: قلته على بيت قديم سمعته على مثل ما قال التميمي لصاحبه اذا الخل أورى لك صدوداً فأوره صدوداً ولو كانت جزالاً وهايبه وكن عنه أغنى منه عنك ولا تكن جزوعاً إلى حقت بالاقفا ركايبه ترى ما يعيب الدوحة الا من اصلها وما آفة الانسان إلاّ قرايبه إلى قوله: وموت الفتى في كل دوٍّ سملّق خليّ من الاوناس قفر جوانبه قفر يحير به الدليل مخافة شجر المفالي طامسات مراقبه على الرجل أَشْوَى من جلوس بديرة يقيم بها والذل دوم مطانبه وقوله: خاطر بنفسك في لقا كل هيّة تحوش الغنايم والمقادير غالبة فلا خطر يوم بيدني منيّة ولا حذر ينجي من الموت صاحبه وشم واغتنم واطلب من الله بالدجى فهو خير من يعطي العطايا لطالبه شجاعة يصاحبها إيمان وعزيمة، وعزة نفس واقدام، ذلك من أسباب كسب الرفعة والحياة الكريمة. والقصيدة تشتمل على أبيات لها مثيل في شعر الفصحى مثل: يا مورد الاسياف بيض حدودها ومصدّرة حمرا من الدم شاربة و: على الرجل أشوى من قعود بديرة يقيم بها والذل دوماً مطانبة وهذا دليل على اطلاع واسع للفتى على شعر الفصحى، وظهر تأثره هذا بشكل جلي في كثير من الأبيات نسيجاً ولغة ومفردات. وخلو القصيدة من العواطف الجياشة التي تكون بين الآباء والابناء كما هي لدى دباس وأبيه ليس غريباً على حياة قاسية شغل الزعماء فيها بالنزاع للرئاسة والغنائم، وبخاصة الأسر الحاكمة في ذلك الزمن. ولكن القصيدة فيها أدب واحترام، وساعد موضوعها على التعاطف مع شاعرها الذي ربما تعرض لاضطهاد أسرى ومكائد من أقاربه الذين أشار إلى دورهم في المنازعة: ترى ما يصيب الدوحة الا من اصلها وما آفة الانسان إلا قرايبه وفي ذلك دليل على أن مشكلته ليست في كلمة «ثبر» التي كثيراً ما تترد على الألسنة، ولكنها جاءت غطاء لأسباب وتراكمات أخرى نأى الفتى عن ذكرها لأنها تسيء إلى الاسرة. والصراع الأسرى معروف إلى يومنا هذا بسبب المراكز والمال. وشاعرنا ذو حظوة وتقدير عند كثير من الشعراء الذين امتدحوا خصاله وأخلاقه وهو انعكاس لما يكنه المجتمع للفتي من تقدير.