بيده تلك يقلب رغيف الخبز في التنور قبل موعد الإفطار.. لكنه في الحقيقة يقلب بداخل تلك النيران أوجاع الغياب لأسرته وهو يقطم "رغيف" الغربة وذكرياته الدفينة بداخله، فرائحة الخبز تذكره برائحة ملفع أمه، واستدارة الرغيف تذكره بوجه زوجته وحنين المشتري لطعم الخبز يشبه كثيراً حنينا عاصفا بالداخل، وجوع الصائم وعطش الممسك يصاحب قدر الجوع والعطش لأبنائه، يتأرجح على مقاعد الغياب والفراغ الذي يسكن بيته كلما عاد فلم يجد أسرته الكبيرة مجتمعه، كعادتهم الرمضانية.. لا يمكن تبديد الضباب الذي بأعماقه بابتسامة من مشترٍ يمد له النقود ليقول له "شكراً"؛ فبائع الخبز يعلم بأن مهنته كخباز من أكثر المهن التي تورطك في أشواق دائمة، فرائحة الرغيف.. هي رائحة الوطن، هي كلمة الانتماء.. وهي البيت ثم العائلة.. بائع الخبز ينحني بجسده على التنور.. لأنه يخشى أن يشم المشتري رائحة ذلك الحنين من تحت أكمامه وبين تقاسيم وجهه.. وتفاوت مقدار احمرار الخبز يعني مقدار تفاوت انفعالاته المصحوبة بطعم المطر الذي يسقط من ذكرياته تلك.. فلا تسأل بائع الخبز.. عن إفطاره كيف هو شكله، وطعمه، ورائحته.