قد لا تكون الشعوبية مجرد حركة سياسية وثقافية قديمة بدأت في العصر الأموي واستفحل أمرها في العصر العباسي ثم تلاشى أي أثر لها في ما تلا ذلك من العصور وصولاً إلى وقتنا الراهن. ذلك أن الشعوبية إذا كانت قد قامت في القديم على أساس الحطّ من شأن العرب وتفضيل العجم عليهم، فإن هذه الحركة لاتزال حية ترزق. بل إنها حققت، وتحقق يومياً، من النتائج ما لم يتمكن أنصارها القدماء من تحقيقه. فمن يدقق في أدبيات الكثير من الحركات السياسية المعاصرة في المشرق العربي، وبخاصة في العراق ولبنان، لايجد لمفردات «العرب» و«العروبة» و«الوحدة العربية»، و«الأمة العربية» مكان في مفرداتها. فالقلب والعقل يتلفتان صوب مكان آخر، وكأن حاضرة الأمة ومهوى قلوب أبنائها لم تعد الحاضرة العربية بل حاضرة أخرى غير عربية، وكأن المشروع العربي النهضوي قد وُئد نهائياً لصالح مشروع آخر يمكن تسميته بالمشروع الفارسي. ومع أن هناك مراجع كثيرة يمكن أن تُسعف في تأكيد ما نذهب إليه، فإن أحداً لا يختلف في كون اللغة السياسية التي يستخدمها حزب الله يمكن أن تشكل المرجع الأول والأكثر شيوعاً وبياناً في التعبير عن هذه النزعة المعادية للعرب وقضيتهم ومشروعهم الحضاري. وإذا كان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله هو الناطق الأعلى باسم هذا الحزب، فإن من يستمع إلى خطبه لايجد أن لما نسميّه عادة بالقضية العربية، أو بالمشروع الحضاري العربي، أثراً في هذه الخطب. فالقضية عنده هي غير هذه القضية، والمشروع هو غير هذا المشروع. ولعل من النادر أصلاً تسرّب عبارة «العروبة»، أو «الأمة العربية» إلى خطبه، فإذا حصل هذا التسرب، فالأرجح أنه لم يقصده، ولعله من زلات اللسان التي لا ينجو منها أحد. فالحديث دوماً هو عن «الأمة» دون أي تحديد أحياناً، ولكن المتلقي يفهم على الفور أنها ليست الأمة العربية قطعاً، بل هي أمة أخرى. وهذه الأمة الأخرى ليست الأمة الإسلامية بمعناها المعروف عند الإسلاميين أو في الإسلام، لأن المستمع إلى خطب السيد حسن نصر الله يستنتج، وبما لا يقبل الشك، أنها الأمة الإسلامية الإيرانية ومن يلوذ بها في الخارج، أو يهبها ولاءه. فهي ليست إذن «الأمة الإسلامية» بمعناها العام الشامل في الشريعة والفقه والفكر وهي قطعاً غير الأمة الإسلامية التي قصدها الأفغاني ومحمد عبده وشكيب أرسلان ورشيد رضا وسواهم ممن نظر إليها على أنها الاطار الأوسع للعمل السياسي والوطني والثقافي العام. إنها أمة تتحلق حول مذهب ديني معين، لا أمة يتسع صدرها لكل المذاهب بلا استثناء. بل هي أمة تعادي المذاهب الأخرى عداءً صريحاً وباطناً، لا يخفى على أحد، أما إذا بدر منها ما لا يفيد هذا العداء، فما علينا إلا أن نحمله على محمل المجاملة لا أكثر ولا أقل. أما السعي إلى مد الجسور، وإعمال لغة الحوار ونشدان الكلمة السواء، فأمر ليس في الحسبان على الاطلاق. فما في الحسبان هو المصالح العليا للجمهورية الإسلامية الايرانية وأطماعها في التوسع والهيمنة تحت شعار تصدير الثورة وما إليه من الشعارات، والانتفاع بما تدره المذهبية من فوائد. وقد وقع على العرب بالذات عبء كبير من شيوع هذه المذهبية في بلادهم لأنها زادتهم تفتيتاً وتفسخاً في حين أنهم أحوج الأمم إلى الاتحاد والتضامن. إن تفضيل العجم على العرب كان معروفاً في المجتمع العربي زمن العباسيين على الخصوص كما ذكرنا، ولكن دعاته لم يكونوا عرباً خلّصاً، أي من أصول عربية، بل كانوا من المثقفين ذوي الأصول الفارسية. لذلك يمكن للمرء أن يتفهم بواعث هؤلاء، ومنها أن النعرة القومية بقيت حية في نفوسهم. ومن يقرأ كتب الجاحظ وابن قتيبة يجد أن وجهة نظرهم كانت تركز على أساس. لقد كانوا يسمون بالاضافة إلى «الشعوبية»، ب«أهل التسوية» أي أنهم كانوا يدعون إلى المساواة بين شعوبهم وبين العرب، أي إلى ما نسميه بالديموقراطية. ولكن ما لا يستطيع أن يتفهمه أحد اليوم هو أن الشعوبية الجديدة تنطلق لا من نخب عربية إيرانية الأصل، بل من نخب يفترض أنها عربية صرفة. والسؤال هو: كيف يمكن لمثقف عربي أن يعمل لصالح دولة غير عربية لها مشروعها القومي الخاص بها، ولا يعمل لمشروع عربي صرف عائد لأمة هي أمته بالذات؟ وما هي تبريرات هذا المثقف العربي في نهجه هذا؟ وهل يجوز أن يكون مذهب المرء هو الأساس الذي يبني عليه قناعاته الفكرية بمعزل عن انتمائه القومي والوطني؟ وما هو المردود الذي سيحصل عليه هذا المثقف نتيجة تفضيل مشروع العجم على مشروع العرب؟ هذا دون أن يضع هذا المثقف في حساباته نظرة ازدرائه والتهوين من أمره عند الفرس ومثقفيهم وسياسييهم ومرجعياتهم الدينية والثقافية عن بكرة أبيها. إنه لن يكون في نظر هؤلاء إلا من معشر «الموالي» وهو الاسم الذي كان يطلقه العرب القدماء على من والاهم من الأعاجم! هذا في حين أن باستطاعة هذا المثقف أن ينظر نظرة سوية إلى إسلامه وإلى عروبته، وأن يجد في أمته، دون سواها من الأمم، أعظم الأمم وأجدرها بالفخر والولاء!