«القارورة» آخر منجزات الأستاذ الكاتب يوسف المحيميد يقول الناشر عنها «بلغة سردية جذابة وجرأة على الكشف وبعين تنظر ما وراء الحجب وعبر خيال الراوي يدخل يوسف المحيميد إلى خفايا المجتمع ويقدم شخصيات قد تكون بيننا معها كل يوم تتعذب وتتألم داخل شرنقة الصمت والخوف». بعد أن فرغت من قراءة الرواية هاتفت يوسف لأبسط له له مشاعر سالبة إزاء زهادة في المختلف - أو هكذا أزعم - والصدف العارية.. «القارورة» لحظة غضب أشبه بشهادة ناقصة أو منقوصة. «ثقافة اليوم» تناقش ثلاثية الخلوة والمسافة بين المبدع وهمه والتفاصيل اليومية الواقعة بين النوبات الكتابية وكذلك الخلفية النفسية للرواية الشبابية في مشاغبتها للممنوع الاجتماعي. ٭ في «القارورة» بدا يوسف أكثر زهداً في المفاجآت.. كيف تتعاطى مع المفاجئ، هذا المارد العنيد؟ وما حدود القبول عندك في مغازلة الصدفة؟ - بكل صدق أصاب بدهشة حين يغامر القارئ كثيرا بأن يحاول أن يجلس بجوار الكاتب لحظة الكتابة، ويقول له اكتب هذا، ولا تكتب ذاك، لشعوري ان الكاتب هو أكثر الأشخاص قرباً من نصه الروائي، وهو من يدرك لِمَ دخل هذه المنطقة ولم يدخل تلك، فالمفاجآت التي تبحث عنها على مستوى الاشتغال الفني مثلا، غير مقبولة - كما أرى - في نص مثل «القارورة»، لأن النص يحكي حادثة ما، ويعكس واقعاً ما، في زمن محدد، فهو غير معني بالمفاجآت على مستوى الانتقال الزمكاني مثلا، وهو غير معني أيضا بالمفاجآت على مستوى الاحداث، ليس بالضرورة أن تسير الأحداث مثلا عكس ما يتوقع القارئ، فرواية «القارورة» شاغبت الراهن الاجتماعي وكشفت جزءاً يسيراً منه، وقد حققت الرواية احتفاء عربيا كبيرا كان مفاجئا بالنسبة لي، كما جعلتني أكثر قرباً من القارئ العادي، كأنني أردت أن أقول ان من الممكن أن نكون كروائيين قريبين من الواقع الاجتماعي، نعايشه ونوازيه، نعارضه ونتصالح معه، كأن المفاجأة الكبرى في هذا النص هو قدرته على مباغتة القارئ في حميميته، في دخوله إلى مناطق جديدة في الحكي، وهذا ربما ما جعل هذا النص موضع جدل طويل، وهذا بالطبع يسعدني، كل هذا الجدل هو إيجابي بالضرورة. أردت أن أقول انني دخلت إلى هذا العالم الحميم بدربة ومغامرة، بينما بقي الآخرون يكتبون عن قرى رمزية، وأشخاص رمزيين، وعالم هلامي في الغالب. ٭ اتهمك البعض بأنك تحاملت على شخصية «منيرة الساهي» الشخصية المثقفة، وقدمتها كفتاة تافهة، هل تعتقد انك فعلا بالغت في صياغة شخصيتك لخدمة هدفك فحسب؟ - استغرب بجد هذه النظرة التنميطية، فهل كل امرأة مثقفة هي في مأمن من الخديعة، وهل كل مثقفة يمكن أن تفقد آدميتها، فلا تحب ولا تكره ولا تكذب ولا تخدع ولا تنخدع؟ لماذا نحوّل الثقافة إلى وهم أشبه بوصفة طبية، أي تناول ثلاث كتب يوميا لتصبح مثقفا لا يأتيك الباطل من تحتك ولا من فوقك ولا من حولك. كل ما هنالك انني أردت أن أقدم عالم نساء مضطهدات، كما يحدث في كل أنحاء العالم، يتعرضن للخداع وللظلم وللاهانة وللعنف اجمالا، سواد كان عنفاً جسدياً أو معنوياً. من هنا أريد أن أقول يمكن أن يكون هناك مثقف على المستوى القرائي، لكنه متخلف على المستوى الحياتي، ويمكن أن يكون هناك من هو متخلف ومتأخر على مستوى القراءة والاطلاع، لكنه متمرس على مستوى الحياة. فشخصية «زوربا» مثلا شخصية تسخر من الكتب والثقافة، لكنها تمتلك فلسفتها من الحياة ذاتها، على عكس شخصية المثقف، أو شخصية كازانتزاكي نفسه، شخصية المثقف والقارئ، لكنه خبرته لا تتجاوز الورق. ٭ لماذا كل ما طرحت رواية يثار حولها الجدل، منذ «لغط موتى» وحتى «القارورة» مروراً بروايتك «فخاخ الرائحة».. ما الأمر؟. - أظن ان إثارة الجدل والخلاف حول نص أو شخص هو مسألة إيجابية للغاية، وهي بالضرورة أفضل بكثير من ممارسة الصمت حيال النص الروائي، وهذا الجدل يعني اننا أمام كاتب إشكالي، سواء في ما يطرحه من أفكار ورؤى، أو ما يقترحه نصه من جماليات، من هنا صدقني ان ذلك لا يضيرني أبداً، بل انني في الغالب لا أرى ما يكتبه الآخرون، إلا بعد أن يشعرني أصدقاء أو يبعثون لي بمثل هذه الكتابات، وأحيانا أشعر ان ما يقدمه لي من يهاجمونني لأسباب شخصية أهم بكثير ممن سواهم، لأن بعض هؤلاء يلهج باسمي بمناسبة أو بدونها، حتى انهم يهبونني قيمة كبرى لم أسع إليها، ولكن لا يضيرني أن تصلني دون عناء مني.. وإن كنت اتمنى أن اكتسب قيمتي من نصي فحسب، لا من شخصي، ولكن هذا ما يحدث الآن، هكذا أنت ترى أنا اكتب وانتج بانضباط وهم يلهثون خلف كتاب لي أو حوار أو ما شابه. ٭ بعض الروائيين مهمومون داخل النص وآخرين خارجه.. ما هي المسافة بين يوسف وهمه؟ - أبداً المسألة ببساطة انني إنسان عادي للغاية، لست مدع ولا متعالم، همومي بالضرورة متنوعة ومتشعبة، فداخل النص أقدم شخوصي وأعيش معها، أعيش همومها ومعاناتها، أحلامها وخيباتها، ألاحقها حيناً، وتلاحقني أحياناً، ألجأ إليها نادراً فأبثها همومي، فأجد انني فشلت في تعدد الشخصيات، فأهرب بروحي ووعيي وذهني عن هموم الشخصيات ذاتها، لأرمي ذاتي خارجاً، بهمومها وطموحها، خارج النص وشخوصه. بصراحة لا أخفيك، هي مسألة معقدة للغاية، وليس من السهل التفريق بين وعي الكاتب وهمومه ورؤاه، وبين وعي وهموم ورؤى شخوصه، ولكن اعتقد ان من الخطأ الشائع أن يحشر الكاتب همومه لدى الشخصيات، والا انتفت أهم شروط الرواية الحديثة.. وهذا ما أحاوله بدأب وصبر. ٭ في ثلاثية الخلوة.. من يكمل يوسف ومسودة الرواية؟ - يعتمد على النص المكتوب ذاته، فمرة يكمل المسودة وشخصي ككاتب أصدقاء أثق بذائقتهم واتساع رؤاهم، وهم بالمناسبة مختلفون من عمل لآخر، بعضهم شعراء، وبعضهم نقاد، وغالبا قراء محترفون، لديّ بالمناسبة أكثر من قارئ حرفته الوحيدة الانهماك في قراءة الإبداع، خصوصا الرواية العربية أو المترجمة، فهؤلاء لديهم حس رائع تجاه النص، وهم قادرون على تقييم النص، والقبض على مواطن الخلل فيه، هؤلاء أسميهم مختبري، فلهم تقديري. ٭ «القارئ هو الكاتب الأخير للنص».. هل تسكنك هذه العقدة؟ - أبداً، لا اعتبر ذلك عقدة أصلاً، بل هي حقيقة، لأن النص الروائي يراهن على القارئ، وليس على النقاد أو الأصدقاء المعدودين، وإلا لكنا طبعنا نسخاً محدودة وسلمنا لهم، أو أرسلنا نسخاً منها عبر البريد الالكتروني، ووفرنا حتى قيمة الورق أيضاً، علينا ألا نجدف كثيراً، فهناك قارئ يبحث عن الرواية في كل مكان، وعلى النص أن يكون دقيقا وواضحا ومتعددا، بسيطا وعميقا في آن، أما استجداء الشعر في كتابة الرواية أو التباكي بشكل رومانسي على البيوت القديمة والحارة القديمة وشتم الاسمنت دونما اقناع، فهذه نصوص بليدة عفى عليها الزمن، فالرواية لها أعمدة كما يرى كونديرا، ولها شروط فنية قدمها كثير من المبدعين كبورخيس وكونديرا وكالفينو وغيرهم. بمعنى ان نمتلك رؤى واضحة وصريحة، أن نمتلك معارف متعددة، ان نكتب برشاقة وسهولة وفي منتهى الصفاء، ان نستطرد بحساب ودراية، ان نكتب باتساق وانتظام دقيق، هكذا كتابة الرواية كما أرى وأسعى إليه. ٭ أنت تكتب بشكل منتظم.. ما طبيعة تماهيك مع تفاصيلك اليومية وهي واقعة بين نوبات كتابية متقاربة؟ - تسكنني الكتابة أينما كنت، فأثناء انشغالي بالتفاصيل اليومية الروتينية والرتيبة اتأمل عالمي الروائي والقصصي، أنسجة ذهنياً حتى إذا ما جلست إلى لوح الكيبورد ذهبت في عالمي الأثير، وشخوصي الذين أحبهم. ٭ هل انتقال دراما يوسف من النص الروائي إلى العمل المرئي سيكون محفوفا بملابسات سالبة؟ - لا أعرف، ولكن كان هناك حديث مع أكثر من صديق، أحدهم سيناريست، والآخر منتج، حول رواية «القارورة»، ورغم إيماني أن تحويل العمل المكتوب إلى عمل مرئي ينقله من الحالة الفردية إلى الجماعية، وبالتالي يصبح عملا مشتركا بين الروائي والسيناريست والمخرج والممثل والمنتج، إلا انني لم اتحمس كثيرا لخوض التجربة، طبعا أدرك أن نص الروائي سيبقى في مأمن، كونه نصا مكتوبا ومطبوعا وهو ما يمثلني، بينما تحوله إلى عمل مرئي هو عمل جماعي، يحصد نجاحه ويتحمل فشله المجموعة كلها.. لكن أمر انتاجه مع مراعاة الظروف الاجتماعية والرقابية و.. و.. و.. الخ سيحوّل العمل المكتوب إلى عمل مختلف تماما، وهذا ما لم اتحمس له. ٭ كيف تقيم الروايات الشبابية، وما هي الخلفية النفسية وراء تنافسها على مشاغبة الثابت الاجتماعي؟ - أظن ان الرواية التي يكتبها مجموعة من الروائيين والروائيات هي ما تؤسس لتجربة مهمة ستقدم الرواية السعودية إلى العالم العربي بشكلها الأكثر نضجاً وموازنة بين الجمالي والفني وبين الرؤى والأفكار، وهذا ما افتقدت إليه الرواية لدينا لسنوات طويلة. أما مسألة مشاغبة الثابت الاجتماعي فأسأل ما الثابت الاجتماعي، هل هو الذي نعيشه ونحيا به لكننا لا نقوله، أي نصمت حياله، إذا كان ذلك فمن شروط الرواية ان تخترق هذا الثابت الاجتماعي وتشاغبه وتشاغله أيضاً، أو على الأقل لا تراه حاجزاً وعائقاً لتجلياتها الخاصة. ٭ أخيراً ماذا عن جديدك الإبداعي؟ هل ثمة جديد سيصدر؟ وماذا يشغلك الآن؟ - لديّ مجموعة قصصية جديدة عنوانها «أخي يفتش عن رامبو» وستصدر في أغسطس المقبل، وقد نشرت بعض قصصها في بعض الصحف والدوريات العربية، وبعضها لم ينشر بعد، وأشعر انها مجموعة مختلفة إلى حد ما عن اشتغالي القصصي السابق، كما صدر لي قبل أيام قصة طويلة للفتيان عن دار الهلال المصرية، وذلك ضمن سلسلة كتاب الهلال للأولاد والبنات. أما الآن فمنشغل في بحث ودراسة وتقصي، سترى قريباً نتائجه.