مجلة ادونيس الجديدة " الآخر" تثير السؤال عن الشاعر " الظاهرة " في العالم العربي، فأدونيس في ثقافة العرب الحديثة ظاهرة، وليس شاعراً عابراً. وبالطبع سنجد في هذه الظاهرة محاسنها ومساوئها، كما نجد فيها ثابتها ومتحولها، كما هو عنوان كتابه الذي اشتهر في السبعينات. وعندما يصدر أدونيس وهو يتعدى الثمانين، مجلة جديدة، يدفعنا الى الاعتقاد بديناميكيته، بل ديناميكية الثقافة العربية في الحفاظ على ظواهرها. وسنجد في هذه المجلة، تلك الروح الحميمية لأدونيس، حيث يخلق للقريب والشخصي بعدا جديرا بالرعاية والحنو، من غير ان يهمل ربطه بانشغالات الثقافة العربية ، بل العالمية. وليس بغير دلالة في هذ الوقت، أن تصدر مجلة أدونيس الجديدة عن دارين، دار الحلبوني بدمشق ودار الساقي ببيروت، فصاحب المجلة فاصلة بين الثقافتين: السورية واللبنانية، وبينهما تشكلت حداثة ما بعد التحديث الأول للسياب وصحبه. وليس لنا أن نخوض ضمن هذه العجالة في المفهومين الملتبسين في الثقافة العربية، ونعني" التحديث" و"الحداثة". ولكن ادونيس منذ كتاب، صدمة الحداثة، ثم شغله في مجلة "شعر" و "حوار" أشاع المصطلح الثاني باشكالياته المختلفة. أفرد ادونيس للشعر حيزا مهما في مجلته الجديدة، فنصفها الثاني عنوانه "الديوان" ، ويكاد يحتل الشعراء الشباب الحيز الأكبر فيه، في حين زادت حصة الشيوخ من البحوث، حيث تركزت بموضوع يجتمع حول سؤال سبق ان جادلت فيه مجلات ومؤتمرات عربية، وهو " لماذا لم يكن للعرب فلاسفة " وهذا السؤال لا يقتصر على الحاضر، بل يتصل بالفلسفة العربية الاسلامية. في مجلة " الآخر" لا نجد محاولة لقراءة الانتفاضات العربية، وعدا المقدمة المبتسرة التي من المرجح ان يكون كاتبها ادونيس، تبدو الكتابات على انقطاع مع الثورات الجديدة. ولعل توقيت ظهور المجلة، يضع موادها تحت مساءلة محرجة، لا من باب طلب الاشادة والهتاف للثورات، بل لأن هذا الحدث وضع الثقافة العربية برمتها في حرج القبول بمسلماتها السابقة، بما فيها طرق تفسيرها لمغزى العلاقة بين الغرب والشرق، ومعنى الذات والآخر في علاقة بين مفاهيمهما المتبدّلة عالميا، والمتحينة عربيا. وكلها اسئلة مجلة " الآخر". في الثقافة العربية والاسلامية يطرح أحمد برقاوي سؤالا مباشرا : لماذا انتصر سيد قطب، وانهزم علي عبد الرازق في معركة الوعي، وانهزم سيد قطب وعبد الرازق معا في معركة السلطة السياسية؟ عاد برقاوي الى عصر النهضة العربية التي يسميها "النهضة المزعومة" هذه النهضة التي قد حَمَلّها المثقفون العرب من الأوزار، ما يكفي كي تكون سبباً من أسباب نكوصهم. في حين بمقدور المعاين الموضوعي، أن يرى ان تلك النهضة الفكرية كانت أقرب إلى معجزة في حياة شعوب انقطعت عن التاريخ طويلا، وإن مجرد استمرار الحركة الصاعدة للثقافة العربية الى بداية الخمسينات في الأقل، كانت تكفي للنظر بموضوعية، بل بإكبار، الى ما حققته تلك النهضة من منجزات. وليس ما يذكره برقاوي من علل تكمن في المشروع النهضوي، على خطأ، وبينها كما يرى غياب الطبقة التي يسميها "طبقة الأحرار"، ويقصد هنا المجتمع الرأسمالي الصناعي الذي ارسى مبادىء الفردانية والعلمانية. ولكنه وهو يتناول اصلاحات محمد عبده يراها نتاج وعي فردي، فهو يقول " ظل محمد عبده الممثل الأبرز للإصلاح الديني(في صورته المصرية) فردا في ساحة التاريخ، ولم تسنده قوة مجتمعية تجعله جزءا من مشروعها السياسي" ولكن هل لنا في هذه الحالة ان ننظر الى الحال على نحو مقلوب ونرى الشيخ محمد عبده نتاج سياسية محمد علي في بناء دولة المؤسسات المصرية، حتى طرحه عن المستبد العادل، ليس بعيدا لا على الواقع المصري ولا حتى عن تمثلات عصر التنوير الغربي. فقر الزاد الفلسفي المحلي، كما يرى برقاوي، جعل العرب بعد هزيمة حزيران،يعودون الى التراث محاولين معرفة سر هزيمتهم، وبدلا من ان تنتصب الحرية هدفا وغاية بوصفها نمط الوجود الذي تعلن فيه الأنا انتصارها بتحويلها الى ذات فاعلة، يغدو وعي العبودية اساسا لوعي الحرية. وفي سؤال الفلسفة العربية يعود محمود خضرة وهو استاذ الفلسفة في جامعة دمشق، الى الفلسفة العربية الوسيطة، ما بين رياضيات الكندي ومنطق الفارابي يتجلى النظر العقلي عند العرب في توفيقهم بين الاسلام والارسطية، وبين الدين(الوحي) والفلسفة (العقل)، وهكذا سار ابن سينا على طريق الفارابي، ويكون ابن رشد فيلسوف العقلانية بامتياز، ولكنه يرى خلاف ما يراه برقاوي، فالعرب المعاصرون " لم يفعلوا ما فعل الاوربيون، ولم يقراوا تراثهم الفلسفي قراءة نقدية، ولم يسلكوا فيه النظر العقلي، وبقيت هذه القراءة لاحقا محصورة في طار الشروح ثم اعادة الشروح. ويعزو الاسباب الى افتقادهم التراكم المعرفي والحرية الفكرية. يطرح عبد الأمير الأعسم، الباحث العراقي، موضوع البحث عن الاصول التاريخية لاشكالية العرب مع الفيلسوف، فالعرب لايحترمون المشتغل بالفلسفة، كما يقول "ولابد من التخلص من الخرافات والسخريات التي تتعرض لها الفلسفة في مجتمعنا الذي لا يحترمها، بل يقرنها باوصاف متخلفة، وقد تخرج الالفاظ عن اللياقة" وهو يرى ان بمقدور العرب التخلص من تبعية الغرب، عبر دراسة التراث الفلسفي الغربي على نحو شمولي وتوفر الزاد المعرفي لنقده دون الامتثال اليه. وسنجد في تصنيفه لطبقات المترجمين والاكاديميين والدارسين للفلسفة، ما يفيد القاريء في معرفة خارطة التحرك العام للمشتغلين في هذا الشأن. يخرج علي محمد أسبر وهو دارس فلسفة، بحصيلة يرى فيها ان الفلسفلة العربية عموما، اتباعية وليست ابداعية " منذ الكندي وصولا الى يوم الناس هذا لم يتعد ما أُسهم فيه في ميدان الفلسفة : الشروحات والتعليقات والتلفيقات، والتوفيقات" ولعل القراءة المتمعنة في سؤال غياب النظر العقلي على امتداد البحوث، يهمل أهم عائق في ثقافة العرب، وهو شعرية هذه الثقافة، وعندما يصبح هذا السؤال نافلا، تغدو المجلة تحية لاستمرار همة أدونيس وشبابه الدائم، وهو يستأهلها.