تشهد المملكة مساحة جغرافية صحراوية قاحلة، هائلة المساحة، ولأسباب عديدة وظروف مختلفة بقيت جوانب ومعالم جغرافية طبيعية وأثرية بشرية لم تكتشف في بعد، فضلاً عن أن تُدرس أو تحلل وتفسر علمياً، لذا الآثار التاريخية كبيرة وكثيرة في أرض المملكة، بل وباتت أرضاً بِكراً، وكنزاً ثميناً نادراً، يغري علماء الجغرافيا والتاريخ والآثار و"الأنثروبولوجيا" وغيرهم، ويؤجج شغفهم للبحث والتنقيب لاكتشاف طبيعتها الأرضية، وحضارتها الإنسانية منذ القدم، وهذا ما دفع قسم الجغرافيا بجامعة القصيم بزيارة استطلاعية علمية ل"حرة خيبر". "الرياض" حاورت "د.عبد الله المسند" -رئيس الفريق العلمي الجغرافي-، ليحدثنا عن تلك الزيارة العلمية، وفيما يلي نص الحوار: الأشكال الهندسية *ما هي أبرز الأشياء التي شاهدتم في الرحلة إلى بلدة فدك "الحائط" وحرة خيبر "حديقة البراكين"؟ - هي كثيرة ولعل أبرزها الأشكال الهندسية الحجرية العجيبة، قد لا يلحظ الزائر للحائط "فدك"، أو لمحافظة خيبر، أو لحرة خيبر بوجه عام، والواقعة إلى الشمال من المدينةالمنورة، ظاهرة الأشكال الهندسية الحجرية العجيبة والمدهشة والكبيرة والمنتشرة في مساحات جغرافية واسعة من الحرة، إذ لا تُلفت الانتباه للمار حولها أو بينها، ويظن للوهلة الأولى أنها عبارة عن حجارة منتثرة بشكل عشوائي، أو على أفضل محمل أنها بقايا لأسوار وأطلال تهدمت منذ أمد، دونما أن تُلفت انتباه العين الهندسة العجيبة لتلك الأشكال الحجرية المدهشة، وهذا ما جرى مع الفريق العلمي الجغرافي، لأنه تبين للفريق أنّ مثل هذه الأشكال الهندسية الحجرية الأثرية تتضح بجلاء عبر صور الأقمار الصناعية بواسطة خرائط "Google Earth" وغيرها، ولكن في الطبيعة والميدان المسألة تصبح صعبة حتى لمن يستهدفها. تتضح عبر صور الأقمار الصناعية بواسطة «Google Earth»! صنع بشري * وما هي حقيقة تلك المنشآت الحجرية، وهل هي من صنع البشر؟ - وفقاً للصور الفضائية والدراسة الميدانية قسمت المنشآت الحجرية إلى عدة أنواع، النوع الأول: المثلثات الحجرية، النوع الثاني: المذيلات أو المذنبات، النوع الثالث: المصائد الحجرية، النوع الرابع: أشكال أخرى مختلفة، وأزعم أن تلك الأشكال الهندسية هي من صنع بشري قبل عشرات القرون. مثلثات حجرية *دعنا إذاً نتعرف على النوع الأول "المثلثات الحجرية"، وما مادة بناء تلك الأشكال وأبعادها الهندسية؟ - المثلثات الحجرية أبرز وأجمل الأشكال الهندسية الحجرية في حرة خيبر على وجه الخصوص، وتتواجد عادة قرب الحواضر والمستوطنات بشكل كثيف، وربما اصطفت عشرات المثلثات المتقابلات على خط واحد قد يبلغ طوله نحو 2 كم، وأحياناً نجدها متناثرة بعيداً عن الحواضر، وهي مبنية من أحجار بركانية محلية، بارتفاعات متباينة قد تتراوح بين 30 إلى 50 سم، وتبنى غالباً على هيئة دائرة تامة يتراوح قطرها من (1) إلى (25م) تقريباً، وفي وسط الدائرة غالباً ركام حجري على هيئة دائرة أيضاً، ويخرج من الدائرة الأم خطان مستقيمان يبتعدان عن بعضهما كلما ابتعدنا عن الدائرة، حتى يتصلا في أطرافهما بخط يشكل قاعدة المثلث. منشآت حجرية غريبة فوق حرة عويرض معظم القارات *هل الأشكال الحجرية الهندسية تتواجد فقط في حرة خيبر؟ وما هو تفسيرك لتك المثلثات؟ - في الواقع الأشكال الهندسية الحجرية الأثرية تتواجد في معظم القارات، وهي من مخلفات أمم سابقة، لذا فقد حيرت علماء الآثار في العالم، ومنها ما تم تفسيره، والبعض الآخر ينتظر كشف أسراره، وتفسيري لها تبين من خلال التمعن والتفحص فيها وفي مواقعها وحجمها واتجاهها الجغرافي تبين -والله أعلم- أنها أشكال لا تمت بصلة في تحديد الاتجاهات الجغرافية، أو أن تكون دلالة وعلامة لطرق قوافل ونحوها، كما أنها بعيدة عن هندسة ما يسمى بالمصائد الصحراوية للحيوانات، والمسماة بالطائرات الشراعية الصحراوية (Desert Kites)، ولا أظنها تدل على أنها أسوار لحيازات زراعية أو سكانية أو حتى زرائب حيوانية، وليس من مؤشر أو دلالة على أنها معابد أو أنها شُكلت للعبادة، أو أنها رسمت من أجل العبث أو الفن، أو كما يزعم البعض أنها لغة إشارة مع رجال الفضاء!. تفسيري أنها قبور * إذاً ما الهدف من إنشاء المثلثات الحجرية؟ - الهدف -والله أعلم- من إنشاء المثلثات الحجرية التاريخية الأثرية بهذا الشكل والعدد، والتفسير التحليلي والاستقرائي الأقرب لهذه الأشكال العجيبة، أنها قبور لأمم سادت ثم بادت، ومما يؤيد هذا التفسير أن الأمم والحضارات الغنية والقوية آنذاك كانت تُعنى بالقبور، ففي مدين حفروا قبورهم في الجبال كما في البدع أيضاً -غرب تبوك-، وطائفة من الفراعنة شيدوا الأهرامات، كذلك صنع هذا أمم أخرى في أمريكا الوسطى على سبيل المثال، لذا نرى المثلثات الحجرية قريبة بل ولصيقة بالبلدات والمستوطنات البشرية بشكل كثيف، ثم إننا نجد الفرائد منها في الصحاري بعيدة عن المستوطنات والتي تمثل مدافن للبادية والله أعلم. «و هيئة السياحة والآثار» مسؤولة عن الحفاظ عليها ودراستها طبيعة الأرض *لماذا لم يحفروا قبورهم في الأرض كالمعتاد؟ و لماذا جاءت مختلفة الأحجام؟ وما تاريخها؟ - قد تكون الطبيعة الجيولوجية للأرض هي المحددة لشكل القبر وطبيعته، وجاءت أحجام المثلثات المتباينة ربما أنها تعكس جاه ومكانة الميت لدى السكان آنذاك، أما بالنسبة لتاريخها فمن الصعب على علماء الآثار تحديد تاريخ بنائها، ومن بناها، والمسألة تحتاج إلى دراسة علمية ميدانية تقنية، وجهود جبارة للحفر والتنقيب والتحليل عبر أشعة الكربون 14 لتحديد العمر التقريبي لبقايا العظام التي قد توجد في بعض القبور. ركام حجري ممتد يمثل خط أحد المذنبات شرق حرة خيبر متحف طبيعي *ما هي القيمة التاريخية والأثرية لتلك الأشكال الحجرية؟ - لا شك أن وجود تلك الأشكال الحجرية منتثرة ومنتشرة فوق حرة خيبر، وحرة عويرض، وحرة الرحا، وحرة الحرة، وغيرها وبأعداد قد تفوق الألف، تمثل بحق متحفاً طبيعياً مفتوحاً وربما يكون الأكبر عالمياً، وهذا بالتأكيد يضاعف المسؤولية على الهيئة العامة للسياحة والآثار بالمملكة في الحفاظ عليها ومن ثًَم دراستها، وأحسب أن نتائج الدراسة ستسهم بالتأكيد في إعطاء عرب الجزيرة عمقاً تاريخياً حضرياً لا يستهان به، وأشير في هذا السياق أن دراسة تاريخ وآثار الأمم السابقة تأتي في سياق قوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ). المذيلات والمذنبات * دعنا ننتقل إلى النوع الثاني "المذيلات أو المذنبات" ما المقصود فيها؟ - يقصد بالمذنبات أو ما تسمى أحياناً بالمذيلات: هي الأشكال الحجرية التي تأخذ شكل دائرة يخرج منها خط مستقيم وطوله متباين كما طول المثلثات، وقد تجد منها ما طوله 1500م وهذا نادر، وعند التأمل في صور تلك المذنبات في أكثر من موقع جغرافي تبين وبلا شك أنها بنيت وشيدت في وقت المثلثات الحجرية، ووفق الهندسة نفسها، إذ إنها مختلطة بالمثلثات وأحياناً قريبة منها أو منفردة كما هو حال المثلثات. الهدف منها * ما الهدف من المذنبات؟ هل هي قبور أيضاً؟ أم أنشئت لتحديد الاتجاهات الجغرافية؟ أم لغرض وهدف غامض؟ - في الواقع وعند تأمل الصور الفضائية لمنطقة الدراسة على وجه التحديد (حرة خيبر)، نجد أن المذنبات (المذيلات) تصطف جنباً إلى جنب مع المثلثات الحجرية، وتأخذ خصائص المثلث في المواقع الجغرافية والاتجاهات العشوائية، كما تنطلق من دوائر كاملة، مما يوحي والله أعلم إلى أنها أيضاً قبور ومدافن لأمم سادت ثم بادت. لا يوجد دليل * ولكن إذا كانت قبوراً لماذا اختلفت عن المثلثات؟ - سؤال في محله، ويبقى معلقاً، لماذا تميزت القبور تلك بهذا الشكل عن غيرها من سائر القبور المثلثة الشكل؟ من جهتي لا يوجد دليل أثري أو تاريخي أستند إليه، ولكن عند التأمل في الصور وعمل المقارنات، وأخذ الملاحظات، قد نقول إن تلك المذيلات كانت قبوراً لأناس مميزين، إما بجاههم، أو سلطانهم، أو أن يكونوا ماتوا موتة غير طبيعية في حرب أو نحوها، أو أن يكون أصحاب تلك المذيلات من قبائل دخيلة، أو من نحلة مختلفة، أو أن تكون لمن لم يكن له عقب لصغر أو عقم أو نحو ذلك، المهم أنها مختلفة في هندستها، لأن الميت فيها مختلف عن الأموات الذين دفنوا في القبور المثلثة، والله وحده أعلم. صيد الحيوانات *وماذا عن النوع الثالث "المصائد الحجرية"؟ - تتركز المصائد الحجرية Desert kites شمال غرب محافظة خيبر بشكل أكبر، حيث توجد بصور وأشكال وأحجام مختلفة، كما توجد في "حرة الحرة" شمال المملكة، و"حرة عويرض" و"الرحا" وغيرها، والهدف من إنشائها -والله أعلم- هو صيد الحيوانات التي كانت تعيش آنذاك في الجزيرة العربية، من أمثال المها والريم والوعول وحمر الوحش وغيرها، ولأن الإنسان في الحرة لا يستطيع مطاردة فريسته من على الخيل أو على قدميه بسبب وعورة الحرة الشديدة، والتي لا تسمح له بذلك، لذا لجأ إلى الحيلة والابتكار بصورة غاية في الروعة. الأحجار البركانية *صف لنا هندسة تلك المصائد الحجرية؟ - أزعم أن سكان الحرات قديماً استغلوا كثرة الأحجار البركانية المتناثرة بالحرة، وصنعوا مصائد حجرية في الغالب تكون لها فتحات واسعة باتجاه قدوم الحيوانات من واد أو نهر أو مستنقع مائي، فتقوم الطريدة بالدخول في المصيدة، وكلما تعمقت أكثر ضاق الخناق عليها من الجدر الحجرية من على اليمين واليسار (ارتفاعه بالمتوسط نحو 45 سم) ، حتى تصل إلى رأس المثلث أو قل عنق الزجاجة وهي حجرة دائرية واحدة أو أكثر، والأرجح أنها عملت ليختبئ بها الصياد حتى إذا ما اقتربت الطريدة أرسل عليها رمحه، وأحياناً نجد في المصائد إضافة ذكية ومدهشة، فإذا ارتد الحيوان من حيث أتى ولم يُكمل مسيره داخل المصيدة أو نجا من رمية الصياد، فإن الحيوان سيجابه حال ارتداده جُدراَ تحده وتدفعه إلى الدخول إلى دهاليز أخرى في نهايتها حُجر أخرى بوسطها صياد أو أكثر ينتظرون الطريدة، وتكون الحجر عادة إلى يمين ويسار قاعدة المصيدة التي يلج منها الحيوان، والصور تعبر عن نفسها. تاريخ المصائد *وهل للمصائد الحجرية تاريخ معين؟ - قد لا يملك المؤرخون ولا الأثريون تاريخاً دقيقاً يحدد وقت ظهور تلك المصائد الحجرية كما المثلثات الحجرية أيضاً، وبعض المؤرخين يشيرون إلى أن المصائد قد تعود إلى 8500 سنة كما أشار لذلك Vanja Janezic والبعض يشير إلى 5000 إلى 7000 سنة، وأرى أن في هذا مبالغة، وقيل أقل من ذلك 2400 سنة وفقاً لبعض المؤرخين والله أعلم. الأشكال الهندسية *وما النوع الرابع من تلك المنشآت الحجرية؟ في ميدان الدراسة (حرة خيبر) الأشكال الهندسية الحجرية الأخرى عديدة ومتنوعة ومنها: المذنبات المتقطعة، والدوائر الركامية، والدوائر المفرغة (الروابد)، والدوائر المقسمة، والمستطيلات ... إلخ، وهذه تحتاج إلى مناسبة أخرى لعرضها وشرحها، ومحاولة تفسيرها.