في كل تداعيات وسياق تلك الانتفاضات، ستجد أن ثمة قشة قصمت ظهير البعير، وفجّرت الكامن واستدعت المخزون المتراكم من قمقم الخوف. حسابات الخسائر والأرباح تتهاوى عندما تصل إلى حالة لا تعني سوى أن العودة موت آخر لا حياة بعده منذ أن بدأت الانتفاضات العربية تتحرك من بلد عربي لآخر، حتى أصحبت في واقع مشهد عربي تتصارع فيه الإرادات، وتتبلور فيه التوجهات، كان من الواضح أنها بلا قيادة أو رأس يسيطر على مسارها وتوجهاتها، وأنها تصنع كل يوم تقدماً في ترتيب مطالبها وصياغة مفرداتها الثورية. جسد كبير متعدد الاطراف يتحرك تحت عناوين تتفق في رؤيتها العامة، وتترك التفاصيل لتعلن عن استحقاقات مراحل، وبشكل يكاد يرسم منحى يشير الى تطور مطالبها ومواقفها في كل مرحلة. كان من الواضح أنها تنتمي لنسيج شعبي تتعدد هوياته الداخلية، ولكنها تلتقي حول رغبتها الجامحة في اقتلاع نظام تراه مسؤولا عبر عقود عن تعميم حالة تعطيل وإحباط ومصادرة، إلى درجة أنها قطعت مع خط الرجعة، وهي تدرك ان العودة عنه لا تعني سوى الرجوع الى مربع مريع دونه يصبح الموت جسرا للحياة. المفاجأة الكبرى في كل تلك الانتفاضات او الثورات هو اكتشاف هذه الشعوب قدرتها المذهلة على إحداث التغيير الكبير دون انتظار القائد الضرورة، او صراع الاجنحة داخل مؤسسة حكم لم يعد فيها أجنحة بل جناح واحد مسيطر مهيمن مبدع في إحكام قبضته وتطوير وسائله وبناء تحالفاته وممانعة اختراقه. لقد اكتشف الشباب العربي، نواة هذا التحول الكبير، وهو العابر بلا اهتمام لوعي الايديولوجيا، ومتجاوزا للأحزاب القديمة التي لا تعني له سوى استدامة واجهات سياسية معطلة، وبمقاييس السلطة وحدودها وشروطها... إنه قادر فقط بخروجه السلمي للشارع - رغم ادراكه لحجم الكلفة العالية - على هز وتفكيك بنية نظام معاند وممانع للتاريخ والواقع. أما الغريب، فهو جيل في معظمه لم يكن يحمل خلفية كافية لتؤسس حالة حراك على الطريقة التي انبثقت فيها، فلم تكن ثمة قوى أو مؤسسات سياسية او مجتمع مدني متطور كما الحالة بالغرب، ولم يكن النظام ليسمح للشارع بالخروج في أي وقت سوى ممجد وهاتف في سمة او وصمة أصبحت مصدر تندر وسخرية من الشعوب الاخرى. الاكتشاف الاكبر الذي وسم تلك الانتفاضات في مجملها، كان مصدره تلك الحناجر وقواه تلك السواعد الملوحة بالمطالب السلمية، كما هي في عناوين تلك المطالب التي لا تحتمل الخلاف حولها. والتأثير الذي اتخذ مسار الدالة الأسيّة من مسيرات صغيرة الى حشود ضخمة، بما لا يدع مجالا للشك ان ثمة تحولاً لم يخطر ببال، ولم تعد تنفع معه معالجات خبرها النظام وجربها عبر عقود. إنه مسار مواجهة مكلف للطرفين، ولكنه أشد وطأة على النظام من شباب استيقظ فيهم شعور جامح بأن هواء الحرية لساعات اعظم من حياة تطول في قبضة نظام لا صبح بعدها. المعادلة القاتلة للنظام العربي المستبد والمتخبط أنه اختار المواجهة القاتلة مع شعبه عوضا عن محاولة استلال خيط الأزمة منذ الايام الاولى. تلك المعادلة اصبحت غير فاعلة بل تؤثر عكسيا في التطورات السريعة والمتلاحقة. وكلما تعاظمت المواجهة القمعية الدامية تعاظمت حدة مواجهات مطالب ظلت تحافظ على سلميتها وتطور مطالبها وتعيد تنسيق قواها. لقد انكسر حاجز الخوف، ومعه تعطلت تلك المعادلة التي كثيرا ما رآها النظام ضمانة البقاء والهيمنة والسيطرة. والغريب انه بقدر تدفق قوى الامن والاجهزة القمعية بكل درجاتها ومهامها وقسوتها وبشاعتها كانت تلك المطالب تتحرك باتجاه متقدم يفوق قدرة النظام على الاستيعاب. القتل خلق حالة تحدّ بدل التراجع، ورفع سقف المطالب، وحسم طريق اللاعودة بدلا من محاولة التوافق ولو على الحد الممكن. لم يفجر الثورة التونسية محمد البوعزيزي، إنما كان هو (أيقونة) الثورة ومطلق شرارتها دون وعي او قصد او تخطيط. لقد أصبح القيمة الرمزية التي هزت النظام حتى سقط رأسه، وهو الذي استحكم فيه البلاء حد تجويع أسرة تتقوت على عربة خضار يجرها شاب جامعي عاطل يدعى محمد البوعزيزي. كانت تلك الحادثة في بلدة بعيدة عن العاصمة تتحرك في بيئة جاهزة حانت ساعتها للاحتجاج والرفض. اليأس والاحباط والاحتقان الشديد لم يكن يتطلب اكثر من قشة البوعزيزي التي ستظل خالدة في التاريخ، مثلها مثل حوادث كثيرة كانت شرارة أضرمت النار في هشيم كبير ممتد ترتب عليه تحولات عميقة وجذرية. ويمكن أن يقال هذا أيضا عن حادثة مقتل خالد سعيد على يد جهاز أمن الدولة في الاسكندرية، وهي الحادثة التي اصبحت في ضمير الشعب المصري شبيهة بحالة البوعزيزي، وجلبت على النظام المزيد من الكراهية والاستهداف، وأيقظت قدرة خارقة على المواجهة. وهي التي لم تعالج حينها سوى بمزيد من التلفيق والتجاهل والتحدي، وبطريقة لا توحي بأي درجة من الوعي بأن شرارة المواجهة لا تنتظر سوى قشة تقصم ظهر بعير النظام. ظلت تتفاعل هذه الحادثة التي ربما لو حدثت في وقت آخر لما كانت او أصحبت أيقونة الثورة المصرية، التي لم يكن يدرك أحد انها تتشكل نواتها الاولى، وخلال شهور تتحول الى طوفان جارف يعصف بالنظام. ولم تكن حادثة اعتقال طلاب مدارس درعا السورية وتعذيبهم واقتلاع أظافرهم وقتل بعضهم الا الشرارة التي ايقظت روح التحدي. اصبحت درعا وصبيها الشهيد حمزة الخطيب أيقونة الثورة السورية، وهي البدايات التي فجرت كل هذا الطوفان الرافض رغم استدامة القمع وتعدد وسائل الاجهاض البشعة واستخدام الجيش منذ الايام الاولى ... إلا ان مسلسل الاحداث كشف عن أن ثمة حواجز انكسرت للابد، وان ثمة شعباً لم تعد ترهبه الوسائل القديمة، وأن ثمة طريقا إما أن يقود لمزيد من احتمالات التفكك، او استلهام مبادرة حقيقة لا بوادر لها حتى الساعة. في ليبيا ظل القائد يتوجس خيفة، إلا انه بكل خفة وثقة مفرطة، أخذ يوجه نصائحه للشعب التونسي والمصري وهو يلملم اطراف تماسكه، ولم يكن يدور بخلده ان 17 فبراير سيكون موعدا نهائيا له مع تاريخ ليبيا التي جثم عليها اربعة عقود. لم يكن يتصور ان هذا الجيل الذي اعلن عن تظاهرته الاولى إنما يعلن بداية النهايات. المواجهة الدموية للتظاهرات والقتل العشوائي كانت القشة التي قصمت ظهر بعير الكتاب الاخضر. خرجت المظاهرات الاولى للضغط باتجاه كشف أبعاد مذبحة سجن بوسليم، ومصير المفقودين وهي الحادثة التي قتل خلالها 1500 سجين على ايدي نظام القذافي . إذن سجن بوسليم هو الايقونة التي ظلت تشتعل في خلد الليبيين وتعبر عن مأساتهم الكبرى مع نظام العقيد، وهي التي حرضت على إخراج تلك المظاهرات التي انتهت الى مواجهة دموية مازالت رحاها تدور، وهي تؤذن عما قريب بنهايات يدرك ابعادها زعيم ظل لا يصدق حتى اليوم انه سيرحل للابد. استلهم الشباب اليمني مسار الثورة المصرية. الاحتباسات في يمن فقر ومعطل وتتفاقم فيه صعوبات الحياة وتصل فيه البطالة الى 40%، عوامل أيقظت الشعور العام بإمكانية إحداث تغيير سلمي وسط ممانعة نظام يجيد صناعة التحالفات والانقسامات بين القوى اليمنية. المواجهة الدموية للمتظاهرين في ميادين التحرير والتغيير في اليمن جلبت المزيد منهم، وكانت طامة على النظام. أيقونة الانتفاضة الشعبية اليمينة في سلميتها وحشدها الكبير وتنوع طيفها وفي تلك الحناجر التي تفعل فعلها في تفكيك بنية نظام عصيّ على التغيير. في كل تداعيات وسياق تلك الانتفاضات، ستجد ان ثمة قشة قصمت ظهير البعير، وفجرت الكامن واستدعت المخزون المتراكم من قمقم الخوف. حسابات الخسائر والارباح تتهاوى عندما تصل الى حالة لا تعني سوى أن العودة موت آخر لا حياة بعده. كنت أريد ان أتحدث المخاوف المبررة من أن تلك التطورات في المشهد العربي تحمل مخاطرها معها لأنها بلا مشروع؛ حيث لا يمكن التنبؤ بالقادم خاصة لدى اولئك الذين مازالت الايديولوجيا متمكنة وتحتكم لها رؤيتهم للأحداث، ويثير قلقهم مخاوف التفتيت أو السقوط في حضن قوى تستهدف توظيف تلك الثورات والانتفاضات لصالح طموحاتها في المنطقة ومشروعاتها. إلا أن هذا ما سيكون حديث مقال قادم.