زرت إيطاليا ثلاث مرات في حياتي (كان آخرها الاسبوع الماضي) وفي كل مرة أتأكد من فشل الايطاليين في صنع البيتزا !! .. فرغم أن البيتزا "أكلة" إيطالية 100% .. ورغم شهرة الإيطاليين في صنعها وتحضيرها .. .. ورغم أن أحدا لا ينكر دورهم في اختراعها ونشرها حول العالم .. .. إلا أنهم فعلا لا يجيدون تحضيرها داخل ايطاليا نفسها !! فالبيتزا التي تناولتها في شوارع روما ونابولي وميلان لم تكن أبدا بجودة وطعم البيتزا التي تناولتها في مطاعمنا السريعة. والسبب ببساطة أن البيتزا الايطالية "أكلة شعبية" يعدها كل شخص هناك (حسب مزاجه الخاص ومعاييره الشخصية) معتقدا أنه أعلم الناس بها . وهكذا قد تضطر إلى دخول عشرات المطاعم وتجربة عشرات الأصناف حتى تعثر على الجيد منها (وإن كنت سائحا قد لايسعفك الوقت لدخول 23 ألف مطعم في إيطاليا متخصص في بيع البيتزا فقط)!! وليس أدل على ذلك من (الوصفات الرسمية الموحدة) التي أصدرتها وزارة الزراعة الايطالية لصنع الأنواع المختلفة منها .. وهذه الوصفات الرسمية بدأت قبل سبعة أعوام ببيتزا "نابوليتان" الأكثر شهرة وارتباطا باسم إيطاليا .. فرغم ظهورها في نابولي قبل خمسة قرون بدأت تفقد هويتها المميزة بسبب مزاجية الطباخين الايطاليين واستغلال الاسم من قبل الشركات الأجنبية لبيع بيتزا "أي كلام". وقد توصلت وزارة الزراعة لوصفة النابوليتان (التي تتضمن أكثر من 17 شرطا / من بينها تحضيرها على الحطب) بعد استطلاع آراء 345 ربة بيت في نابولي والقرى المحيطة بها .. وفي النهاية أعلنت أنها ستمنح المطاعم التي تتقيد بهذه الوصفة "ستكر" يلصق على الباب يفيد بتطابق البيتزا المحضرة فيها مع البيتزا التي تصنع في نابولي منذ خمسمائة عام.. وفي الأعوام التالية أصدرت الوزارة وصفات رسمية مماثلة لأنواع أخرى مثل المارجريتا والسيسيليان والبان ستافت / ناهيك عن بيتزا الخضار والأجبان والنقانق وثمار البحر .... ! .. على أي حال ؛ البيتزا ليست موضوعنا الأساسي بل مجرد "مثال" على عولمة المنتجات المحلية وخروجها عن سيطرة بلدانها الأصلية وعادة تسويقها من قبل شركات عالمية عملاقة .. فالمواصفات التي وضعتها وزارة الزارعة الايطالية تهدف أساسا لحماية هذه الأكلة الشعبية (ليس فقط من مزاجية الطباخين الإيطاليين) بل ومن استغلال وتلاعب المطاعم الأمريكية السريعة.. فالأمريكان كما تعلمون شعب لايملك تراثاً قديماً ولا مطبخاً عريقاً ولا أطباقاً تقليدية خاصة.. ولكنهم في نفس الوقت برعوا في اقتباس الأطعمة العالمية وتحضيرها بأفضل الوصفات الممكنة ثم سوقوها للعالم كأصناف قياسية تتمتع بنفس الطعم والجودة العالية (بدليل أن بيتزاهت التي تتناولها في الرياض لا تختلف في طعمها وجودتها عن تلك التي تتناولها في مانيلا أو مونتريال أو شنغاهاي). وهكذا أصبحت المطاعم الأمريكية السريعة مسؤولة عن بيع أفضل أنواع البيتزا (الايطالية) والسوشي (اليابانية) والتاكو (المكسيكية) والقهوة (الفرنسية) والهامبورجر الذي يعود في أصله الى مدينة هامبورج الألمانية !! وفي البداية تجاهلت حكومات العالم موضة المطاعم السريعة والتغييرات المشينة التي أدخلتها الشركات الأمريكية على أطعمتها الوطنية . ولكن شيئا فشيئا اتضح للفرنسيين والطليان واليابانيين ان الأجيال الجديدة في بلدانهم ذاتها أصبحت تتبنى الوصفات الأمريكية على حساب الوصفات التقليدية . وهكذا عمدت حكومات تلك الدول الى تسجيل وصفاتها الوطنية من خلال جهات رسمية متخصصة، وكانت فرنسا أول دولة تقدم على هذه الخطوة من خلال معهد باريس للأطباق الفرنسية .. وبعد فرنسا عمدت البرتغال وفنلندا والصين وروسيا وإيطاليا والبرازيل إلى إنشاء هيئات رسمية لتسجيل الأطباق الوطنية ومنح شهادة بذلك .. وبالطبع لايمكن لهذه الجهات فرض آرائها على الطباخين وربات البيوت ولكن في المقابل لايمكن الجزم بأصالة ووطنية أي طبق مالم يتفق مع "الوصفة الرسمية" !! هذا الحرص (الذي يترك الحليم جوعان) يجعلني أتساءل: هل نملك نحن "وصفة رسمية" تحمي أطباقنا التقليدية من تلاعب الهنود والبنغالة في مطاعمنا العامة؟! ... المحرج أكثر براعتهم في تحضيرها أكثر من نسائنا هذه الأيام ...