الشعر الوجداني النابع من داخل الإنسان والمعبِّر عن مشاعره الذاتية أصدق وأبقى من شعر المديح والفخر ورثاء غير الأقارب، فليس من بكى كمن تباكى، وليست النائحة كالثكلى.. ومما يؤسف له أن معظم مواهب شعرائنا القدامى التهمهم غرض المديح لأجل الحصول على المال والتكسب بالشعر، وقد كادت تلك الظاهرة - أعني التكسب بالشعر - تختفي في شعرنا العامي الأصيل عند فحول الشعراء أمثال حميدان الشويعر وابن سبيل والقاضي وابن لعبون ومحسن الهزاني، ثم عادت جذعة في العصر الحديث، حيث عاد كثير من شعراء النبط للتكسب بالشعر والإفراط في المديح والإغراق فيه، وإن كثيراً منهم ليسيء لهذه الشعر بجعله مطية ركوباً للتكسب ووسيلة لجمع المال وليس للتعبير الصادق عن أعمق المشاعر. * * * الشعر في الأصل هو أن يعبر الشاعر عما يحس به فعلاً، تعبيرا فنياً فيه جمال وخيال، وله وزن وقافية، مما يحعله من أرقى الفنون وأبقاها، وأقدرها على نقل مشاعر الإنسان لأخيه الإنسان، وتحرير عواطف المشاعر المكبوته، وتطهير جروحه النازفة، والإحساس بالحرية والراحة بعد أن يبوح بما يؤلمه ويخرجه من مكنون نفسه فإن البوح المترنم يشفي الغليل، وإن إخراج مشاعر الأحزان يشبه رفع الغطاء عن إناء يلتهب حرارة، فإذا رفع الغطاء تبخرت الحرارة مع الهواء الطلق، أما إذا كتم فإنه يظل يغلي من الداخل، وقديماً قالوا (أقتل الحزن دفينه).. * * * ومن شعر البوح والشكوى قول ابن الرومي يصف تردده ويشكو منه ويبوح بما في أعماق نفسه: «أذاقتني الأسفار ماكره الغنى إلي، وأغراني برفض المطالب فأصبحت في الإثراء أزهد زاهد وإن كنت في الإثراء أرغب راغب حريصاً جباناً اشتهي ثم انتهي بلحظي جناب الرزق لحظ المراقب ومن راح ذا حرص وجبن فإنه فقير أتاه الفقر من كل جانب تنازعني رغب ورهب كلاهما قوي، وأعياني اطلاع المغايب فقدمت رجلاً رغبة في رغيبة وأخرت أخرى رهبة للمعاطب أخاف على نفسي وارجو مفازها واستار غيب الله دون العواقب ألا من يريني غايتي قبل مذهبي ومن أين والغايات بعد المذاهب» فهذا شعر إنساني صادق وصريح ويدخل في باب الاعترافات. * * * ويبوح شاعرنا الشعبي أحمد الناصر بمشاعره الإنسانية حين دخل وادياً كان له فيه ذكريات جميلة ذهبت مع الزمن الغابر وايقظت رؤية الشعيب مواجعه فقال: «لا جزيت بخير يا ذاك الشعيب كلما مريت من عندك بكيت ما بعيث ادخل معك لكن نصيب يوم جيت بوسط شعبانك لقيت أذكر اللي قد مضى وانجب نحيب ليتني باقصاك ما بعت وشريت الموده جرحها جرح عصيب وانت يا مضنون عيني ما دريت ليت زولك عن عيوني ما يغيب أشهد أني في المحبة قد بليت» * * * وقال حميدان الشويعر وهو شيخ كبير مضطر للكد في مزرعته الشحيحة خائفاً من الموت وهو مدين: «اشوف ظهيري موجعني منقطع من حد حقبي وهوجسي تسري بالليل خوف من موتي بطلبي الدنيا عامرها دامر ما فيها خير يا عربي صدّرت وطويت العدة ويعقبني من كان يبي» وتنسب الأبيات التالية للإمام الشافعي، وفيها تعبير صحيح عن سيادة الهموم على الناس، وخاصة ذوي الهمم والكرامة: «كم فاقة مستورة بمروءة وضرورة قد عطيت بتجمل ومن ابتسام تحته قلب شجي قد خامرته لوعة ما تنجلي لو سود الهم الملابس لم تجد بيض الثياب على امرئ في محفل» |* * * ويشتهر الشاعر الكبير محمد بن أحمد السديري أنه إذا أراد أن يشكو همومه يصعد فوق جبل عال (مرقاب) ليكون التأمل أوضح والمساحة أكبر وتتجلى الدنيا للناظر وله في هذا أشعار كثيرة منها: «يقول مكظوم الفواد عليل أرى الليل بساعات النحوس طويل ينام من لاجال هم بخاطره وانا شايل من ضيم الهموم ثقيل اشيل ما لا شال حيد من الصفا ولاني على شيل العظيم هزيل إلى صارت النفس العزيزة تسوقني إلى مرقب عال ذراه ظليل أصبر على ضيم الليالي وكودها وناجي القلب بالفؤاد عليل»