الشعر الصادق يشبه الآهات المسموعة، إنه يعبر عن أعماق النفس ويطهر عواطفها ويظهر آلامها وآمالها إلى الوجود فيريح أصحابه بايقاعه الجميل وتعبيره الرفيع فكأنه بوح الصديق للصديق وحديث الروح للروح. إنه يخرج مكنون النفوس ومطمور المشاعر ومدفون الأحزان فيرتاح قائله: بهذا التعبير الذي أخرج مشاعره للوجود ومنحها صمام أمان ضد الضغط الذي يولد الانفجار وأعطى الأشجان والأحزان مساحات للتبخر في فضاءات الشعر فيحس صاحبها بأنه تحرر منها نسبياً وتطهر من ضغطها بداخلها وقديماً قيل (اقتل الحزن دفينه) والشعر ينشر الحزن المدفون فكأنه ينفثه من صدره فيرتاح قليلاً ويجد معادلاً خارجياً يحفظ له توازنه ويخفف عنه شجونه، فإنه من طبيعة الإنسان ان يغني في الأفراح والأحزان، يترنم بمشاعره سعيداً أو شقياً ليخرج الضغط الذي في داخله والشعر هو أجمل أنغام الغناء، وأرقى الآهات والتنهدات.. فإنه - الشعر - بالإضافة إلى تعبيره عن مشاعر صاحبه وتجسيدها أمامه لتتحول من مجهول يجوس في النفوس إلى محسوس تجسده القوافي والأوزان، فإنه - أيضاً - يرضي موهبة الإبداع، ويسلي صاحبه بامتاع الجمال الذي يصدر من أعماقه كما تصدر العطور من الزهور فيحس بالجمال في نفسه وعلى لسانه وفي آذانه ويشعر ان الناس سوف يتناقلون إبداعه ويحسون بمشاعره ويشاركونه تجربته التي هي في الغالب تجارب الكثير منهم لكنهم لا يستطيعون إبداعها في شعر جميل فيحولها لهم من شعور محبوس إلى تعبير جميل ملموس يشعرهم بالرقي ورفاهة الذوق. ولشاعر العربية الكبير أبو الطيب المتبني قصائد شهيرة في البوح بمكنون النفس، وتحرير شجونها في شعر بقي على الدهر.. رغم ان المتبني شغل بالمديح الذي أكل جل شعره، إلاّ ان له أشعاراً ذاتية يبوح فيها بمشاعره ويعبر عن مكنون نفسه. «وهي كثيرة وجميلة مثل قوله: أهم بشيء والليالي كأنها تطاردني عن كونه وأطارد وحيد من الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد» وقوله وقد حل عليه العيد شريداً وطريداً هارباً من كافور كارهاً له: «عيد بأية حال عدت يا عيد بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديد أما الأحبة فالبيداء دونهم فليت دونك بيداً دونها بيد لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي شيئاً تتيمه عين ولاجيد ماذا لقيت من الدنيا، وأعجبه أني بما أنا باكٍ منه محسود» وقصيدته المشهورة في (الحمى) التي أصابته، وهي من روائع الشعر العربي «وزائرتي كان بها حياءً فليس تزور إلاّ في الظلام بذلت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي يضيق الجلد عن نفسي وعنها فتوسعه بأنواع السقام ويصدق وعدها والصدق شر إذا القاك في الكرب العظام أنبت الدهر عندي كل بنت فكيف وصلت أنت من الزحام؟ جرحت مجرجاً لم يبق فيه مكان للسيوف ولا السهام ولمني الفراش وكان جسمي يمل لقاءه في كل عام قليل عائدي سقم فؤادي كثير حاسدي صعب مرامي عليل الجسم ممتنع القيام شديد الشكر من غير المدام يقول لي الطبيب: أكلت شيئاً وداؤك في شرابك والطعام وما في طبه أني جواد أضر بجسمه طول الجمام فإن أمرض فما مرض اصطباري وان احمم فما حم اعتزامي وان اسلم فما أبقى ولكن سلمت من الحمام إلى الحمام» وكانت مقررة علينا نحفظها ونحن في الثانوي، وهي طويلة معبرة (انظر ديوان المتنبي 4 272-280 شرح البرقوقي. ❊ ❊ ❊ ولحميدان الشويعر وقد وهن العظم منه واشتعل الرأس شيبا: «اشوف ظهيري موجعني منقطع من حد حقبي وهجوسي تسري بالليل خوف من موت بطلبي الدنيا عامرها دامر ما فيها خير يا عربي صدرت وطويت العده ويعبقني من كان يبي» وللفارس المشهور راكان بن حثلين قصائد ذاتية حين كان أسيراً لدى الأتراك: «فيا الله يا المطلوب يا قايد الرجا يا عالم نفسي رداها وجودها انك توفقها على الحق والهدى ما دام خضر ما بعدها في عودها وابدل لها عسير الليالي بيسرها وجل المشاكل فل عنها عقودها وكبد من سقام الليالي مريضه عليها من جمر اللهايب وقودها فيا خط من ذعذع على خشمه الهوى وتنسى من اوراق الخزامى فنودها وتيمم الصمان إلى نشف الثرى من الطف والا حادر من نفودها» وللشاعر حمود البغيلي هذه الأبيات الصادقة الصادرة من القلب: «يا كثر ما قلت ابسوي وابسوي ولا فيه شي من اللي قلت سويته راحت حياتي وأنا اطري وانا انوي واللي بغيته نسيته يوم خليته انا احسب اني صغير وبالعمر توي لا شك شيبت واحلى العمر عديته يا ليتني يا حمد يومه صفا جوي هاك الزمن يا شريف البيت خاويته يا كثر ما قلت ابسوي وابسوي ولا فيه شي من اللي قلت سويته»! وكلنا ذلك الإنسان في كثير من الظروف والأحيان.. في آمالنا طول.. وفي أعمارنا قصر.. يشتعل فينا الأمل ويقصر دونه العمل. غير ان الشاعر المبدع أسرف في التشاؤم وركز على نصف الكأس الفارغ، ونسي ما أنجز وهذا ديدن الإنسان يريد المزيد.. كان السعادة كرة كلما وصلها - كلها وتعب يلحقها.