تحدث فوكايا المفكر الأمريكي للزميل عبدالعزيز القاسم من جريدة المدينة في حوار صحفي نشرته مؤخراً جريدة المدينة عن نقطة أراها غاية في الأهمية، وهي الفصل بين الليبرالية كأحد الإنجازات الرائدة للحداثة وبين من يعيشون في ظلها داخل النظم والبلاد الغربية أو حتى في أي نظام أوبلد ليبرالي آخر، ذلك أن كثيراً ممن يوجهون أصابع الاتهام إلى الليبرالية بأنها تخلت عن أهم مبادئها التي قامت عليها وهي الحرية وحقوق الإنسان، يدللون على ما يزعمونه فشلاً لها بالممارسات اللامسؤولة لبعض من هم محسوبون على النظم السائرة في فلكها خارج محيط تلك النظم، ويضربون مثلاً قريباً وناجزاً لما يدعونه بما حدث في سجن أبو غريب من انتهاكات مرعبة قام بها الجنود الأمريكيون ضد المساجين العراقيين في ذلك المعتقل سيئ السمعة، أو ما يحدث حالياً من اعتقالات لبعض المشتبه في ارتكابهم أعمالاً إرهابية في معسكر غوانتانامو، بحيث إن حدوث تلك مثل الانتهاكات يأتي في نظرهم كدليل على فشل الليبرالية أو عجزها التام عن توفير الحد الأدنى مما كانت ولا زالت تتزعم التبشير به من حقوق أساسية للإنسان يأتي على رأسها ومن أبرزها احترام المساجين وعدم اعتقال الناس أصلاً إلا بموجب مذكرات اعتقال صادرة من القضاء،وأن لا يتم إيقاع أي نوع من أنواع العقوبة عليهم إلا تحت مظلة القضاء أيضاً، ومن ثم فهم يرون أن ما قام به بعض الجنود الأمريكيون بصفتهم محسوبين على أكبر معاقل الليبرالية في العالم يأتي كدليل على التناقض بين ما تدعيه الليبرالية أو على الأقل ما تدعيه الدول السائرة في فلكها وبين ما هو موجود على أرض الواقع من انتهاكات تتناقض مع أبسط حقوق الإنسان. قبل أن أستعرض موقف فوكوياما من هذه النقطة المثيرة للجدل، أشير إلى أنني قد كتبت موضوعاً في هذا المنبر عقب اكتشاف ما جرى في سجن أبوغريب، أشرت فيه إلى أن فظاعة ما جرى في ذلك المعتقل على يدي أناس تجردوا تماماً من أبسط أنواع الإنسانية، وتساووا في انعدام آدميتهم مع أسوأ أنواع الضواري التي تفتك بالأحياء لمجرد الفتك، يجب أن لا يُنسينا أن اكتشاف وفضح كل ما جرى وعرضه على أنظار العالم بالصوت والصورة جاء عن طريق الإعلام الغربي نفسه (الأمريكي والبريطاني بالذات) فلولا قيام محطات التلفزة وكبريات الصحف الأمريكية والبريطانية بكشف خبايا كل ما فعله الجنود بأولئك المساجين - بغض النظر تماماً عن خلفياتهم وانتماءاتهم وما اقترفوه من قبل - لظل الأمر طي الكتمان ولأضحى حبيس أدراج ملفات البنتاغون ومستندات وزارة الدفاع البريطانية، وأشرت حينها إلى أن ذلك المعتقل يمثل واحداً من عشرات المعتقلات التي بناها البعثيون إبان نعيق بومهم الخَرِب على العراق، والتي مارسوا فيها كل ما يمكن أن يعد عاراً على الإنسانية في أسوأ عصور انحطاطها، ومع ذلك ظلت أنباء تلك الممارسات من قبيل اللامفكر أساساً في كشفه أو مقاربته سواء على مستوى الإعلام العراقي أو العربي عموماً، وقلت حينها إن مجرد كشف ممارسات أولئك الجنود في ذلك المعتقل أدى على الأقل إلى إيقاف تلك المهازل فور اكتشافها فضلاً عن تقديم مجترحي سيئاتها إلى المحاكمة. موقف فوكايا يدورفي ذات السياق، فهو يشيرإلى أن ما حدث في العراق من انتهاكات تعتبرولا شك فظيعة ومرعبة ولكن أحد أهم الأشياء التي ينبغي معرفتها - كما يقول - هو أن معظم الأمريكيين يرونها بالفعل مرعبة وكل الجهات القضائية في أمريكا ضد هؤلاء الناس الذين ارتكبوا أعمال التعذيب، ثم أشار إلى خلاصة الجواب على التساؤلات حول تناقض الليبرالية أو إدانة بعض أفعال من ينتسبون إليها، بأن العيش في مجتمع ليبرالي لا يعني عدم ارتكاب أخطاء أو عدم انتهاك حقوق الإنسان، ولكن الفارق الأصيل هو وجود إجراءات مؤسسية عريقة تفرض سيادة القانون وتأخذ على عاتقها آليات االتصحيح لأية انحرافات وقعت أومتوقع لها أن تقع، وهذه الآليات موجودة بالفعل في كافةالدول التي تتبنى النظام الليبرالي الديمقراطي وعلى رأسها الدول الغربية. في المقابل وكدليل على فعالية الآليات التصحيحة الليبرالية في الغرب، فإن المحكمة الدستورية الأمريكية أصدرت قبل فترة قراراها بعدم قانونية احتجازالحكومة الأمريكية للأ شخاص في معتقل غوانتانامو وأن لهم - أي أولئك المساجين - حق رفع الدعاوى ضد الحكومة الأمريكية أمام نفس المحكمة. هناك نقطة غاية في الأهمية تؤصل لفك الاشتباك المتصورتجاه مبادئ الليبرالية وممارسات معاقلها، وهي أن سيادة الليبرالية في مجتمع ما لا تعني أن أفراده تطبعوا بطابع مبادئ الليبرالية بالكامل، بحيث أصبحوا ملائكي التصرفات، محترمين للإنسان وحقوقه كارهين للاستبداد والظلم، وهذا الأمروإن كان فيه من الصحة ما فيه، إلا أن الإنسان يبقى أسير نزعته الخَلقية إلى الظلم والإجحاف والاستخفاف بأخيه الإنسان متى ما أتيحت له الفرصة بالاستفراد بالقوة بعيداً عن فرمانات القانون، مصداق ذلك نجده في كتاب الله العزيز من قوله تعالى في الآيتين السادسة والسابعة من سورة العلق (كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى) إن مجرد استغناء الإنسان بالقوة والجبروت يدعوه فوراً إلى الطغيان والظلم ما لم تكن هناك قوانين تحد من قدرته ورغبته في ذلك، أما في الآية الرابعة والثلاثين من سورة إبراهيم فيقول الله تعالى (إن الإنسان لظلوم كفار) وجاء هذا الوصف القرآني باستخدام صيغة (فعول) كدليل على أن الظلم طبع أصيل في الإنسان وليس تطبعاً، والفارق يبقى فقط في مدى وجود ما يحد من جبروت هذا الطبع الإنساني وهوما توفره آليات الليبرالية بغض النظر عن أية ممارسات تقع خارج محيط تلك الأليات. إن من هالتهم فظائع أبوغريب - ونحن منهم بالطبع - وتنادوا من ثم على إثرها لإعلان فشل مبادئ الليبرالية قياساً على تجرد أولئك السجانين من إنسانيتهم، ينسون ولاشك أن الظلم والاستبداد في أبشع صوره طبع أصيل في الإنسان، وأنه متى ما أصبح في حل من أية التزامات قانونية تجاه الآخرين فإنه سيصبح وحشاً بل وسادياً لا يتلذذ إلا على وقع سماع أنين الحيارى والمعذبين، ووقائع التاريخ شواهد على هذه المأساة الإنسانية، ولوأن سجن أبوغريب كان في واشنطن أولندن أوغيرهما من المدن الغربية لما زاد أولئك السجانون المرعبون على أداء التحية للمسجونين ريثما يحكم القاضي بشأنهم ليتصرفوا على أساسه دون زيادة أو نقصان، وهذا هو الفرق بين الليبرالية والشمولية. (يتبع) [email protected]