ظلت الفنون جميعا ، وعبر تاريخها ، وعلي رأسها الشعر بمجازاته الغنية بالتعبير ، هي الوسيط الإبداعي الذي ربط بين شغف الإنسان في زماننا الراهن وارتباطه بحقائق وجودة في الحياة وما بعدها وتوقه القديم الذي لا ينتهي إلي خيال جامح ومخيلة قادرة علي تصور الحقائق التي تثير الدهشة ، ومن ثم تطرح السؤال عن معنى وجودنا في الزمان والمكان وتتتبع مصائرنا وخواتيمها!!. يري د. جابر عصفور في فن الرواية انه الشكل الأمثل بين إشكال الإبداع الذي يستحضر ذلك الصوت المائز لهموم الزمن الخاص بالواقع وسط إيقاع الأصوات المتنافرة لأزمنة العالم الذي تحول إلي قرية كونية بالفعل لكنها قرية يختلط فيها الحلم بالكابوس ويمتزج فيها الوعيد بالوعيد. وينتهي د.جابر عصفور إلى أن الرواية هي ديوان عصرنا ، وأقدر أشكال الفنون التي تعبر عن المفارقات التي تكتظ بها حياتنا المعاصرة . إذن على بقية الفنون الشعر والقصة القصيرة والمسرحية أن تهمش أمام السطوة الجديدة لفن الرواية التي سادت وأصبح الزمن زمانها ، وأصبحت كتابتها هي الاختيار الأمثل للتعبير عن أحوال عصرنا ، وعن متغيرات حياتنا ، فيما تصبح بقية أشكال التعبير متوارية هناك في الظل تنظر باستحياء وعدم فهم إلي أسئلة النقد الحاضرة وفق هذا التصور الحاضر فعلى الذين اتخذوا أشكالا أخرى للتعبير عن تجاربهم أن يخرجوا من التاريخ ، خالعين جلودهم في الشعر والقصة القصيرة والمسرح لان مساحة زماننا الفني لم تعد تتسع إلا للشكل الروائي وحده . على بورخيس وايزرا باوند وت .س "أيليوت.وتشيكوف وكافكا وكاترين مانسفيلد والمكسيكي العنيد ميرو .. وعلى الآباء العرب المتنبي وابن الرومي وادونيس وعبد الصبور والسياب ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم وجبران ، هؤلاء وغيرهم من جددوا الكتابة ، عليهم أن يفسحوا الزمن لكتابة الرواية باعتبارها عطية الوقت والأوان ، والشكل المنذور لتحولات الكتابة !! أنا لا اكتب سوى القصة القصيرة واعتبرها بذرة بداخلها شجرة الخلود وأنها الشكل الأصعب للتعبير عن أحوال الناس . وأتساءل : كيف يحتل فن مكان بقية الفنون في زمن ما ؟ .. كيف يصادر شكل من أشكال التعبير خلود أشكال أخرى ما تزال فاعلة ومستمرة في كل الأزمنة؟ تعقد الآن المؤتمرات حول زمن الرواية ..آخرها الملتقى الدولي الخامس للإبداع الروائي العربي في القاهرة من الفترة 12 : 15 ديسمبر الماضي مهموما بسؤال الرواية العربية إلى أين؟ وكالعادة يكرس المؤتمر فن الرواية ويناقش مدى تجريبيتها ومسارها ووطأة التاريخ في سرديات المرأة وعبر 139 دراسة وشهادة تغيب بقية الفنون وتفسح المجال أمام فن الرواية وحده . زمن للرواية ؟! ..نعم .. لكنه أيضا زمن لكل الفنون الجيدة حيث تتجاور لخلق سؤال الحرية التي هي جوهرة العالم ، ويجسد حلم الكاتب الذي رسمه بورخيس العظيم حين تخيل رجلا اقترح على نفسه مهمة رسم العالم : وخلال سنوات من عمره جسد الفضاء بصور الأقاليم والممالك والجبال والأدوات والسفن والخيول والأشخاص وقبل يقضي نحبه بقليل اكتشف الرجل أن متاهة الخطوط الصبور الذي دأب زمنا على رسمها إنما كانت ترسم صورة وجهه هو .