الكثير من الجغرافيا العربية تعيش زمناً مضطرباً ، وتمر بحالات مخاض لم تتضح معالم وأبعاد نتائجه ، لكنها في القراءات ، والتحليلات ، والإستنتاجات غامضة ، وغير مطمئنة ، وربما تزرع الخوف ، أو التوجس على الأقل عند الناس ؛ بحيث تتجسد الخشية وتكبر وتأخذ حجماً مخيفاً إذا ماكانت النتائج تقود إلى الفوضى ، والانفلات ، وسيادة القوانين العائلية والعشائرية والقبلية ، وبروز الإقطاع والمال كموجّهين ومحرّكين للسياسات ، والتوجهات ، والرؤى ، والأفكار. وهذا هو هاجس الكائن البشري على امتداد الجغرافيا التي دخلت مراحل من الاحتجاج ، والرفض ، والتعبير عن الأوجاع التى تراكمت عبر عقود من زمن حكم العسكر الذي خلّف لنا هذا الإرث من الكوارث ، والانهيارات ، والتخلف ، والجهل ، وتوقف التنمية والنمو على كل الصعد . الزمن القادم لايزال ملتبساً ، ربما يكون جميلاً ، وربما نعيش من خلاله حالة حسرة على أزمنة مضت ، رغم مافيها من بؤس وتعاسة للشعوب ، ونتذكر القول العربي الشهير في عجز البيت الشعري " كالمستجير من الرمضاء بالنار " ووقتها لايداخلنا الشك بأن هذه الأمة فقدت كل عقلها ، ولم تعد قادرة على ترميم أوضاعها ، وتقطيب جراحاتها ، والدخول في دائرة صناعة التاريخ ، وإنتاج المنجز الحضاري ، والفكري ، والتنويري ، إذ إن " فاقد الشيء لايعطيه " . هذا الكلام لايحتمل التفسير بأن الأنظمة التى اجتاحتها عواصف التغيير كانت مخلصة للتاريخ ، والإرث ، والإنسان ، بقدر ما كانت عاملاً مسربلاً ومعيقاً لكل مضامين التنمية البشرية ، والحياتية، وأهدرت زمناً كان من الممكن فيه تحقيق أهداف ، وغايات ، وبرامج ، وخطط ترتفع بالأوطان واقتصادياتها إلى مراتب مبهرة ، وتحوّل الكائن البشري إلى مشارك ، ومساهم ، وفاعل في إنتاج المعرفة والوعي والتحديث وعملية الإنتاج ، بدلًا من تقوقعه داخل كهوف ظلام الجهل ، والتخلف ، وممارسته لحياته كإنسان هامشي مستهلك ، خارج دينامية التاريخ ، والفعل الحضاري. لقد مارست الأنظمة الشمولية ، الاستبدادية ، والقمعية الكثير من الخطايا في حق الشعوب ، والتاريخ . وكرّست أدوات التخلف بسلب الإنسان إرادته ، وفكره ، وحرياته ، بحيث حولته إلى قطيع لايفكر ، وإذا أراد ، أو حاول أن يفكر فإن اللعنة تطارده ، وتلاحقه ، وعهر الأدوات القمعية تحيله إلى حطام بائس ، وتعيس لايصلح للحياة أو على الأقل العيش . وانطلقت هذه الأنظمة بعد سحق إنسانها ، وفي أحسن الظروف تشريده إلى المنافي ، وأرصفة عواصم العالم ، لتكرّس بعد ذلك تأبيد الفساد ، والهدر ، والابتزاز ، وترسيخ النفعية ، والانتهازية ، وثقافة السمسرة ، والعمولات للمحسوبين على النظام. نريد أن نخلص إلى ممارسة الحذر كثيراً ، وفتح أعيننا جيداً ، ومراقبة مايحدث ، وما سيحدث ، ذلك إذا أردنا أن نبقى كأمة لها إرث قومي ، وفكري ، وتنويري ، ونضالي مهيب..