فلتات لسان المرء توقعه في المهالك، وقد قيل إن اللسان بريد القلب، وكثيرا ما يغرف اللسان من قِدر القلب ما فيه مما يخبئه المرء بين جنبيه، فيأبى لسانه إلا فضيحته ! ونحن في بيئتنا الصغيرة هذه قد اختزلنا الإسلام فيها ، ونسينا ، أو تناسينا ، أو غفلنا ، أو تنكرنا لبقية المليار ونصف المليار من المسلمين ، حتى غدونا وحدنا من يحمل الراية ، وأخرجنا غيرنا من الفرقة الناجية ، ومن الطائفة المنصورة ، وكل من سوانا هالك ، ليس له من الإسلام حظ ولا نصيب ، إلا بقدر ما اتجه نحونا ، وأمسك بيدنا ، وسار معنا ، حتى إذا افترق به الطريق عنا ، أو أفلت يده ليسير مع غيرنا كِلنا له التهم ، وأخرجناه من السنة ، أو من الملة ، فإن أعيتنا الحيل وصمناه بالدونية ، التي غطيناها كثيرا حتى لا تظهر للعيان. ولكن في فلتات ألسنتنا ما يظهر هذه النظرة الدونية للناس ، التي حذر منها الإسلام أيما تحذير ، فجاء على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم : بحسب امرئ من الشر أي يحقر أخاه المسلم . وقد عرف رسول الهدى صلى الله عليه وسلم الكبر بأنه : بطر الحق , وغمط الناس . وهذا تعريف شامل ، يظهر الكبر بجميع صوره ومظاهره المتعددة ، إذ ليس الكبر كما نظن محصورا في تخايل المرء في مشيته ، أو لويه عنقه ، بل يشمل نظرة احتقار منه لمن هو دونه في نظره ! إن بطر الحق ، يعني أن لا يقبله تكبرا ، لأن قائله في نظره أقل منه شأنا، أما تراهم قالوا : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم . فما الفرق الذي سيحدث لو كان القرآن قد نزل على أحد الرجلين ؟ فالذي منعهم من قبول الحق شخص المنزل عليه ، تكبرا . وغمط الناس استحقارهم . وهذا من أخطر ما نواجهه في واقع دعوتنا اليوم ، ألا وهو النظرة الدونية لغيرنا من الناس , واعتبارهم كقطيع غنم نسوقه حيث نشاء , لا يمتلكون من الفهم والفقه إلا ما نتفضل به عليهم , ولولانا لكانوا هلكى , وفي ظلام دامس عميانا يتيهون . فنرى أنفسنا أهل الحق , وشعب الله المختار , وحجة الله على الخلق , اصطفانا الله لدينه , والدفاع عنه , من بين مليار ونصف المليار من المسلمين الذين حجب الله عنهم الهدى إلا ما نجود به عليهم ، إذ كلهم ، أو جلهم في أعيننا ضلال لا يهتدون. فالناس سوانا أهل هوى ، لا اكتراث عندهم بتحري بالحق ، والحرص على مرضاة الله , قد استعبدتهم عقولهم وأطماعهم المادية , ولم يعد يوجد من يحمل هم الدين , والحفاظ على الشريعة الغراء بيضاء نقية إلا نحن . ولا نصيب لأحد من الحق إلا بقدر صلته بنا , وتفكيره بعقولنا , وتنفيذه لما نمليه عليه بالحرف الواحد , فإن أطاع , وكان جنديا صالحا – في حزبنا - , فاز ونجا، ولحق بركب المصطفين الأخيار , ومن ثمَّ كيلت له الألقابُ والمدائح جزافا من غير تقدير. وإن سئم من سلطتنا التي خولها الله لنا , ومن القيود التي طوقنا بها الأعناق , وجففنا بها منابع التفكير , تخطفته الطير ، أو هوت به الريح في مكان سحيق . أو كما قال عنترة : فشككت بالرمح الأصم ثيابه ليس الكريم على القنا بمحرم فتركته جَزَرَ السباع ينشنه يقضمن حسن بنانه والمعصمِ هكذا نحن , بلسان الحال ، لقد اختزلنا الإسلام العظيم ، الذي نقر بأنه للناس كافة ، فضيقنا عليه الخناق حتى حصرناه في تصوراتنا , وأفهامنا . وتأبى فلتات اللسان من بعضنا إلا أن تظهر ما أخفينا ، وتنشر ما أسررنا ! فتزيل الستار عن كثير من مكنونات الصدور ، كما قال أحد الحكماء : ما أسر أحد سريرة ، إلا أظهرها الله على صفحات وجهه ، أو فلتات لسانه . وكم حاولنا كتمها ، فأبت منا الألسنة إلا أن تغرف ما في القلوب فتظهره ، فنصم كل من خالفنا بالجهل ، والتعالم ، وإنما يريد شهرة ، وما أشبه تلك التهم لشخصه ، حتى نحافظ على ملكيتنا الخاصة ، والقطعية للحق ، وفهمه دون سائر الناس . إن كثيرا يحمل في قلبه بطر الحق ، وغمط الناس ، فينظر إلى العالم بنصف عين , فلو كان أعلم أهل الأرض ، فلن يعدو قدره ، إذ هو ليس منا ، ولا من بيئتنا !!!! فنحن ، ونحن فقط من عقيدتهم صحيحة ، وفقههم هو الأرجح، والأصح، واختيارنا هو الاختيار . وليس غيره من خيار ! ومن خالفنا فليس له إلا أن يذهب إلى سوق الخضار !!!! ومن أقوال من سلف : لا ينبل الرجل حتى يأخذ ممن هو فوقه , ومن هو مثله , ومن هو دونه . وهذا ما فعله الغرب المتحضر الذي سبقنا إلى الحضارة بآلاف السنين الضوئية , والذي نزعم أنهم تتلمذوا على إرثنا الحضاري. فلم يمنع الغربي شعوره بالأفضلية والتميز من أن يستفيد ويتتلمذ على الحضارة العربية في دمشق ومصر والأندلس ودول ما وراء النهر , ليعود مرة أخرى يعتلي عرش التقدم الحضاري . لقد كان تاريخ عظماء الأمة وعلماؤها مليئا بأهل الحرف، والمهن ، بدءا من أنبياء الله ورسله ، كداود الحداد ، وزكرياء النجار ، وكلهم رعى الغنم ، وفي الأمة الزجاج ، والبزار ، والنحاس ، ولم يكن علماء اللغة فيها عربا ، ولا حملة الحديث منها عربا ، وما سادت إلا لما أعطت كل مجتهد نصيبه ، فلم تفرق بين عربي ولا عجمي ، وآخت بين سلمان وأبي الدرداء ، وطبقت حرفيا : إن أكرمكم عند الله أتقاكم . فلنسأل – أحبتنا – سؤالا حائرا ، لعلنا أن نجد عندهم له جوابا من المخاطب في قول الله { كنتم خير أمة أخرجت للناس هل نحن المخاطبون ، دون سائر الناس ، أم هي الأمة جمعاء ، فإن كنا نحن وحدنا من خاطبنا الله بها ، فقد حجرنا واسعا ، وإن كانت الأمة في الصين والهند ، وأندونيسيا ، وأمريكا ، وأفريقيا ، مشمولة بالخطاب فكيف يكونون خير أمة وهم عن الصراط ناكبون ؟ كيف يكونون خير أمة وهم في أعيننا هلكى وضائعون ؟؟!!