سمعت طرفة عن رجل خمسيني يعمل مدرسا في مدينة بشمالي المملكة، فلأنه يهوى تربية الأغنام نصب خيمة خارج العمران عند القطيع الذي يملكه. وكان يستضيف للسمر بين وقت وآخر في خيمته جيرانه من الرعاة وملاك الماشية. جاءهم يوما رجل يخبرهم بوجود ذئب يجول في المنطقة، فأخذوا الأمر بجدية، وتواصوا على التحذير حال اكتشاف أثره، وبدأ الكل بالاهتمام ورصد حركات كلاب الحراسة فهي جرس إنذار فعال إذا اقترب المعتدي أو همّ بالهجوم. وبعد شهر حضر إلى الخيمة أحد الجيران وهو يحمل الذئب بعد قتله ( بطريقة ما ). ويبدو أن طول فترة تخوف الجميع على أغنامهم واعجاب الجار بنفسه كانت محفزا لادعائه أن الذئب هجم عليه شخصيا أثناء نومه؛ حيث زعم أنه استيقظ على رائحة أنفاس كريهة ورأى الذئب يكاد يطبق بفكيه على حلقه، ولأنه وقتئذ بلا سلاح أضطر إلى الدفاع عن نفسه رجل لذئب أمعط، أي ( مشابط ) وعراك انتهى بمسك رقبة سرحان بيديه وخنقه حتى الموت! وبعد أن أكمل الجار ( الفارس ) روايته سأله أحدهم: لماذا لا نرى عليك أثرا للمعركة حتى لو ( مخش ) بسيط؟! هنا تدخل المدرس وقال ضاحكا: ( ذيب الشمال ما يمخش )، وبعد تناقل الطرفة بين أصحاب المدرس صارت عبارة ( ذيب الشمال ما يمخش) دلالة بينهم على من يدعي فروسية أو يضخم الأنا أو يلفت الانتباه إلى شخصه ببطولات مزعومة. لعلك قرأت أو سمعت بقصة الفتاة شلوى التي كانت قبل أسبوعين بطلة في خبر لا يخلو - من وجهة نظري على الأقل - من تناقض يشبه تناقض تصورات أجدادنا عن الذئب ونظرتهم تجاهه التي تحمل في ثناياها الفروسية والغدر، والمخاتلة والإقدام، والكره والإعجاب. قبل الخبر والتعليق دعني أشرح المثل الشعبي ( فلان ذيب غدرا، أو ذيب الغداري ). الدلالة هنا لا تنصرف إلى صفة الغدر. صحيح أن الذئب حيوان شرس يتبع المباغتة إذا أراد ختل فريسته وصيدها، لكن كلمة (غدرا)، هي عكس قمراء، وهي عامية أصلها فصيح من الغدراء وهي الظلمة. والمعروف أن الذئب لا يظهر غالبا من مكمنه إلا ليلا لأسباب معيشية بخلاف أنه أكثر جرأة على الهجوم في الظلام الذي قد يخيف أعداءه من البشر بينما هو توقيته الملائم في مسرح إظهار مهاراته وقوته وبطشه. والحقيقة أن الذئب لديه قوة عجيبة بالقياس على حجم جسمه. وإذا قيل إن ( فلان ذيب غدرا، أو ذيب الغداري ) فذلك ليس دلالة على الغدر وعدم الالتزام بالعهد، بل يُقصد أنه جريء وقوي لا يرهبه شيء عندما يشتد الخطب. واقع الأمر أن في الأمثال الشعبية - وليس حكايات أو (سباحين الجدات) - سجل تجارب ورصد أساليب حياة وطرق عيش وتعايش فضلا عن أن ثقافتنا التقليدية حاضرة حتى لو تعددت مشاربنا الثقافية.. حاضرة أحيانا في فهمنا وتفسيرنا لطبيعة الأشياء من حولنا. أما الخبر فنشرته أوائل الشهر الجاري صحيفة الجزيرة، ويتحدث عن فتاة عشرينية اسمها شلوى تعيش مع أهلها في خيمة بمنطقة برية قرب محافظة عقلة الصقور بالقصيم، قيل إنها أنقذت شقيقتها من فكي ذئب هجم على الأسرة ليلا ( داخل الخيمة )، وذلك بأن خلصتها من المأزق وأمسكت برأس الذئب ثم أطبقت بيديها على فكيه، ثم صرخت الأم - التي كانت تعتقد أنه ثعلب كما تفيد تفاصيل الخبر- منادية الأب النائم خارج الخيمة فحضر بعد أن نهض من فراشه وشاهد الموقف، وبسبب عدم وجود كهرباء وإضاءة تبدد ظلام الليلة الغدراء ذهب إلى سيارته كي يضيئ مصابيحها ثم اتضح له كامل المشهد، ثم أحضر سكينا حزّ بها رقبة الذئب الذي لم يستطع كل هذا الوقت التخلص من يدي شلوى! ونجا كل أفراد الأسرة. هذا ملخص للخبر الذي تردد أياما في أحاديث الناس وعصفت به فضاءات الإنترنت نقلا وتعليقا واعجابا ببطولة شلوى، بل هناك من كتب بحبر الشجن متحسرا على غروب زمن الفروسية والبطولات في اسقاط على أجيال من ( الرخوم ) يسكنون المدن. طبعا كل التفاصيل التي أتى بها مراسل الجزيرة سالم الوهبي نقلها (رواية) عن أبي شلوى. إذا لا اعتراض، فلو كنت مكان الوهبي لأرسلت الخبر بلا تردد، ولو كنت محررا مسئولا لنشرته، فالمهنية لا تسقط مادام هناك ( راوٍ ). وطالما أن الرواية تشير صراحة إلى أن الفتاة تعاركت مع الذئب وأطبقت بيديهاعلى فكيه الذين يستطيع بقوتهما طحن العظام، فنحن أمام ذئب (رخمة) إذا كانت الفتاة مثلها مثل غيرها من بنات جنسها، أو أن الذئب ( ذيب غدرا ) وشلوى حفظها الله لأهلها تتمتع بقوى ( خارقة )، أو أن رواية الأب لم تفهم (تفصيلا) كما ينبغي فوقع لبس في تفسير سبب أو أداة أو كيفية القتل. اترك خبر شلوى وذئبها جانبا، وأقول إنني أؤمن بضرورة المحافظة على كل أنواع الأحياء البرية بما فيها الذئاب، مثلما اعتقد أن حياة إنسان واحد وسلامته مقدمة على وجود الذئاب كلها في أدنى المملكة وأقصاها، لكن أشير إلى أنني كتبت غير مرة عما تتبعته من أخبار نشرت في الصحف عن حوادث ذئاب معتدية بينما الرصد أفاد أن هناك من يتعمد البحث عنها حتى في مناطقها النائية ويقتلها كي يقال ( كفو ما يجيب الذيب إلا ذيبان )، خصوصا لدى أولئك الذين انحرف بهم هوس هواية الصيد وأصبحت عبارة عن ممارسات طائشة يستعرضون بها أمام الآخرين بدافع شهوة منحهم صفات الفرسان. الغريب أن الذئاب كانت زمن الأجداد أكثر بكثير مما هي عليه الآن بل وفي كل المناطق، أما حاليا فالذئب كنوع مسجل في المملكة ضمن الحيوانات المهددة بالانقراض، ومع ذلك كانت حوادث اعتداء الذئاب مع كثرتها قديما محدودة جدا وفي ظروف نادرة للغاية، أما مؤخرا فالأخبار تكررت عبر الصحف المحلية عن ذئاب تعتدي على البشر وعلى المزارع وعلى قطعان الماشية، وأمرها - أي الأخبار - محير. فهل تفاصيل كل الأخبار صحيحة وتدل على أن الذئاب تتكاثر بصورة خطرة لم تدركها الجهات المعنية؟ أم أن خطورتها تكمن في انقراض أو ندرة طرائدها من الحيوانات البرية واضطرارها إلى النزوح من أماكنها النائية والبحث عن غذاء داخل التجمعات السكانية؟ وهل الهيئة السعودية للحياة الفطرية معنية بإجراء مسوحات ميدانية للتحقق من أعداد الذئاب وتحديد أماكن وحجم تواجدها وطبيعة التغير في سلوكها إن كان هناك تغير حتى يتقى الناس خطرها؟ أم أن الأمر كما رصدته في أخبار سابقة مماثلة اكتشفت أنها تنشر تحت غطاء ذئاب معتدية لتمريرها عبر الصحف بينما الحقيقة محض عبث وزعم فروسية وبطولات؟!