أصعب من الضرب ومن التأنيب وإغلاظ القول أن يشبه الشخص بالحيوان ، خاصة فيما يفهم منه الاحتقار أو الدونية في النظرة ، ذلك لأنها تحدث جرحا مؤلما قد يطول برؤه ، ولا ينساه صاحبه. ولقد حرص المجتمع بالأمس كل الحرص على نفسه وضبط سلوك أفراده وتعاملهم مع بعضهم ، بحيث لا يجد الفرد مجالا للتصرف الذي يضايق الآخرين أو يعيق حركة المجتمع نحو سعادته وهدوئه وارتياحه ، كما لا يسمح لنفسه أن يعرضها إلى لغة الضبط التي أشرنا لها وهي التشبيه بالحيوان ، لأنه لن يقوى على تحملها . الفرد في المجتمع يجابه بنقد سلوكه بشدة أو يشجع عليه ، فيحط من قدره أو يرفع منه بلا مجاملة وبلا تواني والكل يحفظ بنود لغة الضبط التي تعتمد في أساسها على التشبيه دون مد اليد ودون استخدام السوط أو العصا لكنها لغة كافية . إن المجموع الكلي للمجتمع والنسيج العام وسلوكه واستقامته وضبطه يعد أهم شيء وهو بالفعل مهم جدا ، ومن يخرج عن دائرة قناعاته بأي تصرف فإنه يعرض نفسه للمخاطر ، ويكون ضمن عالم آخر هو عالم الحيوان . ومن التشبيه بالحيوان وسلوكه تم ضبط السلوك لدى الأفراد . فإذا أبدى الشخص حماسة ونشاطا ووفق في تصرفه ، قالوا ما شاء الله ( صقر ، ذيب ، سبع ، أسد ) وإن تكاسل أو غفل ولم يوفق و أخطأ ، قالوا ( بهيمة ، دبشة ، نعجة ، دجاجة ، بومة ، حداة ، هدهد ) وإن نام عن المهمة قالوا كسول : النوم للهلباج والكلب والنساء وما يهتني بالنوم سرحان ذيبيه وفي الخوف ( حمرة ، صافرة ( وهي أم سالم ) صوابة الليل ( وهي البومة ) وإن عجزت قدراته عن إنجاز المهمة قالوا : رخمة ( طائر يشبه النسر يأكل الجيف ، فيه غباء حيث يضيع عشه والبيض ومثله طائر أبو حقب ) وإن وفق قالوا : طير شلوى ( نسبة إلى شلوى وهي امرأة ) أما جمال المرأة ورشاقتها فتشبه بالغزال ، وإن خالفت ما اعتادوا عليه مما يرتقي بسلوكها والعادة الحسنة قالوا : بقرة ، والرجل يشبه في حال المخالفة للعادة الحسنة : ثور ، وإن كان فطنا لماحاً قالوا : ذئب . واستحدثوا المثل الشعبي ( الذيب ما يهرول عبث ) وإن كان يبطن الشر ويتغافل الناس ، سواء رجلا أو امرأة قالوا: عقرب أو حية ( ثعبان ) ولكن يغلب عليه تشبيه المرأة بهذا أكثر من الرجل ، وإن غلب على طبعه الدهاء والمكر والتذاكي ، قالوا : ثعلب . وفي الضعف يقولون : حصيني أو أبا الحصين ، وهو الثعلب ، ولكن يصغر تقليلا أو تحقيرا ، لجانب الضعف فيه مقارنة بالأسد والذئب.ولا يتركون شيئا من الحيوانات أو ما حولهم من طائر أو حشرة إلا وظفوا سلوكه في المقارنة والتشبيه من أجل تقويم سلوك بعضهم بعضا يقول الشاعر : حميدان الشويعر . أي طير إلى طار عشى الفريق وأي طير العشا ذات أبا الصرصرة ماكره كل ليل بعرض الجدار وكل ساس الى أضحى الضحى نغبره وهي مقارنة بين طائرين هما الصقر في الأول ، ولم يحتج من الشاعر إلى تفاصيل سوى أنه يصيد ويعشي الفريق ، أما الطائر الثاني فاحتاج إلى تفاصيل تبين حقارته .فبين حاله أنه طائر لا عش له ، يتخذ من عرض الجدار مخبأ حتى الصباح ، ثم يتجه لأماكن وضيعة تحت ساس الجدران يبحث عن الديدان ، لا ينفع نفسه ولا صيد له فينفع غيره . كذلك الرجل فيما لو استخدم ألفاظا خارجة عن المألوف في نقاشه ولم يقدر كامل التقدير من حوله ، فإنه يقال له : ( ثور ) وإن مال بسلوكه ولو قليلا حتى ولو إلى ناحية ليست بذي بال ، فإنه يقال عنه : (فيه ثواره). أي سلوك مشابه لذاك الحيوان ، الذي قوته في جسده وضعفه في عقله ورعونته في عدم تقدير الأمور . وتأتي صفات ومسميات المدح عند سكان الداخل في ( بكرة ، فرس ، مهرة ) للمرأة ، وللرجل ( حصان ، جمل ...الخ ) ، وأما سكان ساحل البحر فتأتي ( جوهرة ، قماشه ، لؤلؤة ، حصة ، دانة ، فريدة ) أما إن غابت عن الشخص الفطنة ، ولم يتنبه لما ينفعه قالوا عنه ( دجاجة ) أو دجاجة صقعاء ، تأكيدا على تطابق الشبه ، وأما إن كان اختياره ومشورته لا تتوافق مع الأجود عادة قالوا عنه : ( بومة ) ليس بصاحب رأي مفيد ، فإن أعجبت تصرفاته من حوله قالوا : ( صقر ، أو شيهان ، أو ذيب أو طير شلوى أو سبع). إذا يغلب على المجتمع استخدام ، ذات الطابع المميز في جانب المدح والفخر بأنفسهم وأولادهم أو العكس ، ويعجب الشخص عندما يشبه بالصقر في كونه يفترس ويصيد ويجلب النفع والأنس ، وبالجمل كونه يحمل أكثر من غيره ، ويتصف بالقوة والقدرة ، وينهض بالحمل لا يعجز ، وتكثر هذه عند أهل البادية حيث يتعلق أغلبهم بالجمل في حله و ترحاله فهو زاده وراحلته وماله وثروته ورأس ماله ولا غرابة أن يكون مضرب مثل في كل فخر بالنسبة لهم . والتشبيه به كأنما صاحبه ينهض بحمل المجتمع ، أو كأنه يحمل هموم القبيلة ويحل مشاكلها وتهون عليه عظائم الأمور وثقل الأحمال ، وإليه ترفع المهمات الصعبة ، ويفرح أيضا عندما يشبه بالذئب أو يسمى باسمه ، فقد خبروه في صحرائهم فلم يبق لهم رأسا من الغنم إلا تغافلهم عليه عنوة وافترسه ، وبالتالي أثبت وجوده وفرضه عليهم بالقوة والإجبار ، وكانت النتيجة فرض تقدير اسمه رغم خسائرهم بسببه ، بل وتهديده لحياتهم ، لكنها الحظوظ ، وكما يختطف الأغنام اختطف المكانة والشهرة والأفضلية مع أنه حيوان غادر لا وفاء فيه بل وحشيته لا تزال ، وغير مستأنس . ولأن التعامل بين أفراد المجتمع من أعقد ما يكون فإن الإشكالية لديهم في كيفية الضبط فهو همهم وهم من بعدهم ، خاصة وأن المواقف مختلفة متبدلة والتجارب عادة لا تتكرر والتصرفات لا يضبطها معيار محدد ، ولا يمكن وضع الناس في قوالب لا تتغير ، فمنهم من يكون سريع الغضب ومنهم من يكون حليما ، وآخر بطيء الاستجابة أو سريعاً فيها ، ومنهم الماكر والمخادع ، ومنهم الأمين والصدوق أو الكذوب وصاحب نية حسنة وآخر سيئة ، والذكي والغبي والمتذاكي والمتغابي وصاحب المشاكل أو المسامح ومنهم من يرضى بالقليل وآخر لا يرضيه شيء ، ومن الناس الطماع أو القنوع وذو اللسان السليط أو الممسك لسانه ، والأحمق والحكيم المتزن ، ومن ينافق وعكسه ، والمتعلم والجاهل ، وقوي البنية وضعيفها وهكذا تجد أمامك شبكة معقدة من السلوكيات والتصرفات ونتائج لخلفيات وراءها من النشأة والتربية وما تعوده المجتمع وما ساد فيه وألفه ...الخ بالإضافة لكل هذا فلكل منهم مكانة لا أحد يحب أن تمس باعتباره إنسان ، ولهذا كله جاءت لغة التشبيه فرع من فروع الضبط الاجتماعي في مجال السلوك ولعل التعامل مع الإبل أو الطيور أو السباع والأنعام في بعض المواقف أسهل بكثير من التعامل مع بعض البشر ، لأن فهم سلوك الحيوان يمكن ضبطه والاستجابة معه والتعامل بشكل آمن وما ينطبق على الواحد منها ينطبق على شبيهه ومثيله من جنسه ولو كثر ، كالتعامل الحاصل مثلا مع الإبل ، والغنم بل والأسود والنمور . وهذا لا علاقة له بما يتميز به البشر وخاصة أن الله كرم بني آدم ، فوهبه العقل وكان متميزا بالتكليف متى ما وفى به وقام، وإلا أصبح أقل من الأنعام وأضل عن سواء السبيل ، فزلل المكلف عن عقله وثقله وقيمته تفقده كل شيء ويتردى في منزلة دون البهيمة من هنا جاء السماح بالتشبيه، أما البهيمة فتبقى تتصرف بطبعها وغرائزها لا تحيد عنها فتكون هي أهدى وأدوم على طبيعتها منه . كل هذا يفرض ضرورة التعديل للوصول إلى مركز و نقطة وسط تستحدث لكي يلتقي فيها الجميع لينسجم الوضع ، وهذا التعديل يأتي عن طريق البوح بالرؤية المعتدلة ، ونقد السلوك غير المرغوب فيه ، والثناء على الإيجابيات ورفض السلبيات ، ولكن كيف ؟ من هنا استفاد الناس من حياة الحيوان الذي يعيش بينهم ، أمة من الحشرات والحيوانات تخيلوها وهي بالفعل واقع ، وفرقوا بينها وبين الإنسان ، وجعلوا البيئة عامل مشترك ، فالماكر ينتبه لنفسه والمخادع يعرف خطأه والشهم يدرك قيمته والأرعن يكف عن رعونته . جاءت الإسقاطات على سلوك وتصرف الحيوان ، كبديل غير مباشر لضبط الوضع لدى الناس ، والمفروض أن يستخدم العلم والتعليم والإرشاد المبني عليه لكن لم يحصل هذا لأنه سيطول وقته ، بينما الضربة المباشرة بالتشبيه أسرع في الوصول إلى الهدف حتى ولو خلفت أثرا مدمرا في النفس . ونتج من الإقرار بمنهج التشبيه الذي تسلم المجتمع نسخة من إصداره ، وحفظه عن ظهر قلب ، وتم التصديق عليه من جميع أفراده ، أن قبلوا به ، موافقين على تجنب كل نقص ومقبلين على سلوك أحسن التصرفات . ولهذا ووفق التسليم به، يوصف بعض الناس بأنه ثور أو بقرة أو رخمة أو بومة أو صقر أو حمامة أو عصفور أو سبع أو ذيب أو حصني وهو الثعلب أو كلب أو حصان أو عقرب أو حية ، أو دجاجة ، أو دجاجة صقعاء ، ومعنى صقعاء يعني بلا عرف ، ويقال : فلان حمامة ، كناية عن الطهر والسلام ، و تضاف أحيانا إلى المسجد فيقال حمامة مسجد ، أو يوصف آخر بأنه نعجة أو جرذي ( الفأر) إن كان مؤذياً ، وربما قيل فلان أو فلانة : دبشة ودبش وهي مجموعة البهائم ، وربما شبهت الكثرة بالنمل ، وأحيانا يؤخذ من شخوص خيالية ما يشبه به لعدم كفاية شخوص الواقع فيقال فلان : سعلو ( آكل لحوم البشر)، أو فلانه شيفة ( جنية مخيفة) ، وربما شبه الشخص بالجني مدحا أو قدحاً أو يقال شيطان للذم غالبا أو لحركته وسرعة تصرفه ، وللأسف مدحا ، وهو خطأ . المهم أنها لم تكفهم مسميات الحيوانات فاستعاروا شخوصاً أخرى من خيال أو غيرها مما لم يرونه.