توسع غالبية قصص الروائي الكويتي طالب الرفاعي من مفهوم الجماعة المغمورة لتشمل فئات هم ضحايا طاحونة التفاوت الاجتماعي، لتبدو القصة وكأنها دفاع شفيف عن الشرف والكرامة والنبل والإخلاص والحب لدى الفرد العادي، وهذا واضح في قصص المجموعة الأولى على وجه الخصوص. يغيب الزوج والزوجة في قصة «أشياء صغيرة» في لحظة رغبة، بينما تضغط عليهما تفاصيل الحياة اليومية فيكون التباعد وعدم التفاهم والطلاق. يحتفي الرفاعي بالحوافز وصفاً لأفعال السرد الصغيرة، وهي تتنامى داخل مقدرة واضحة على بناء نسق حكائي قوامه تكثيف التحفيز الواقعي وسيولة حوار يتأبى على المباشرة والصراخ، وهذا هو دأبه في معظم قصصه؛ وكأنها تنويعات على تأزم الفرد العادي أمام فقدان التفاهم وامتناع التواصل والتراحم وقسوة شروط الحياة. تعود المرأة إلى الفندق في قصة «شاشة» بعد رؤية فيلم، وهي قلقة بشأنه، فربما اتصل بها، وربما.. وتخلع ألبستها، وتستريح في الغرفة ضجرة ملولة، ثم يرد عليها من ! الشاشة، وتتداخل الصورة مع الواقع، حين يقفز من فراشه تلهفاً للالتحام بها، بينما هي متجاهلة. وتتباين القصص في تصويرها بين الخارج والداخل مما يؤدي إلى تأزم الفرد العادي، ويورثه العناء! يسعى مصطفى أبو نعيم لرؤية صديقه القديم أبي خالد الذي أصبح متنفذاً، ويلتقي سكرتيرته طالباً مقابلة، ولكنه ينتظر طويلاً، ويورد خلال فترة انتظاره قصة صعود صديقه، وحصوله على الجنسية؛ على أن سيل استذكاره يقاطع بدخول أحدهم دون انتظار، ويعتقد أنه ممن يتملقهم صديقه دائماً، بينما جاء هو طالباً نقوداً ليدفع أقساط ولديه. ولدى ترحيبه البارد به يصرّ على عدم طلب النقود، لأن الصديق تغير، ولعله بذلك يحافظ على كرامته. تندرج هذه القصة في مثيلتها «ما يصير خاطرك إلا طيب»، فقد استيقظ مصدوعاً إثر سهرة عامرة بالخمرة والنساء، «لم تضع بنادية فيزة العمل.. بنت الكلب.. لعبت برؤوسهم» (أبو عجاج ص102). ويتابع الرفاعي سرده الساخر مستعرضاً جانباً من صباح هذا الرجل المسؤول، ويظهر القصد النهائي في فوات الوقت دون فائدة، فكل شيء يقابل بالعبارة التي تحمل عنوان القصة «ما يصير خاطرك إلا طيب»، ولا شيء يحدث في معمعة اهتلاك الوقت والمشاعر والقيم. وتفصح قصة «مرساة» عن العذاب الهائل على الروع الإنساني تحت وطأة الحاجة للحب، حيث يتقصى الرفاعي اعتمال النفس بشواغل الواقع إيغالاً في الدواخل المعتمة العصيّة على الفهم. يبدأ الرفاعي قصته بدلالتها القصوى: «.. أخيراً تعب هذا القلب، ولم يقو على الاستمرار أكثر» (أبو عجاج ص80). «لقد نجحت العملية، وشفي الرجل من عطب القلب وضعفه المزمن أمام غيبة المرأة المحبوبة التي صارت إلى مطلقة إثر زواج دام ثماني عشرة سنة. كانت الأيام الأولى ناجحة، وما لبث الشرخ أن كبر، وطلبت الطلاق، ورضخ الرجل لطلبها المروع" . وتبدو القصة بعد ذلك إجابة على سؤال فاصل يختزل تجربة برمتها: «لحظتها أدركت أن الحب وحده أعجز بكثير من أن يحفظ علاقة رجل بامرأة» (أبو عجاج ص82). ويستكمل إجابته بحدّة: "وحده ذلك الحب خنقها " ، فهل الحب يخنق الحب؛ وهو كان يحبها، وشرع يعاقب نفسه: «وحدي من حطم كل شيء» (أبو عجاج ص82). أما أثر الطلاق على نفسيته، وعلى ولديه: ديمة وعلي، فلا يوصف، وإن عاين بعض مرارته: «هجرني نومي، عششت بيّ غصتي، وأقنعت نفسي، قلت: ستعود. قلت: مستحيل ينتهي كل شيء بيننا. قلت زوبعة وتمر، وأملت نفسي. منيتها. قلت: سترجع، وسأكون شخصاً آخر. سترجع وسنرتب كل شيء. وانتظرت، وقلت: ستأتي، وانتظرت، وقلت: سأشغل روحي متى رجعت، وبكيت. اعتزلت الناس. خجلت أقابلهم. وكتمت خبر طلاقي عن أقرب أصدقائي. قلت: تعود، ويمر كل شيء، وانتظرت، وانتظرت..» (أبو عجاج ص83). كان انتظاراً خائباً، لأنها تزوجت، فعلل نفسه أنها «تجربة فاشلة وانتهت مثل آلاف التجارب الفاشلة في كل مكان» (أبو عجاج ص84)، ولكن هيهات أن ينسى حبه في خضم إحساسه المأساوي بالتعارض بين الحب والحب، بين فهمه للحب وفهمها للحب، فيوجه خطابه في غزل دافئ مفعم بعذابات الروح، ولا شك أنه من روائع التعبير عن الحب في النثر العربي: «عز علي أن تمس حبيبتي، وعز علي أن يمس عمري.. أنت والفرح تسربتم من بين أصابعي، ولم أنتبه. كنت جاهلاً وضيعتك. ربما كنت فرصة عمري، ولم أعرف كيف أمسك بها، فتبخرت. طارت. خلص انتهى كل شيء.. نساء الدنيا كلهن لن أبدلهن بحبيبتي.. فتاة مادية.. أنثى.. كان رحيق الأزهار يختبئ في شفتيها الصغيرتين. وكان ملمس العافية في أصابعها، وكان زعفران الله في شعرها، وكان عسل الجنة في ريقها. تبتسم فتهمي الدنيا زهرات سوسن وياسمين. طتسهو فتبحر السفن في عينيها. تضحك فيشرع الرب أبواب الجنة للفقراء. تغضب فتشع السماء بأقواس قزح راعشة. تبكي، وما أكثر ما تبكي، فتنساب بدموعها الحبيبة كل آهات الأطفال اليتامى» (أبو عجاج ص84-85). إنها لخسارة فظيعة، وسيظل الرجل منذوراً للعنة المرأة المقدسة التي تسكنه، كما في نجواه الطويلة، لتغدو القصة نداء مفتوحاً للحب الذي يفنيه الحب، وللمرأة الحبيبة التي تلغيها المرأة الحبيبة، وياله من شرخ أزلي سرعان ما يشخص فيدمر كل شيء!. ولا يركن الفرد لضغوط التأزم، فيغالب أسباب مكابدته، إذ تتخلل رائحة الموت مراح الحياة، ويمضي الرفاعي إلى الاحتفاء بعناصر البقاء. في قصة «كراسي الانتظار» تطغى رائحة الموت المميزة النفاذة على المكان، متسربة إلى الروح اللائبة بحثاً عن الرحمة التي يرجوها المرء في عناية الطبيب والممرضة بالأحياء منعاً لسريان رائحة الموت الخانقة. لقد حمل العجوز طفله المريض، ووضعه أمام الطبيب والممرضة اللذين خففا من اضطرابه وقلقه، ولا ينفع ذلك في تهدئة العجوز وطمأنته دخولاً في بعد رمزي لا يخفى: معضلة البقاء التي يدهمها الموت دائماً بأسباب مختلفة؛ فيشف السرد إلى مستوى بليغ تتمازج فيه المشاعر المرهفة مع أدق التفاصيل التي تلتقطها عين فنان مفعمة بإنسانيتها، حادبة، حانية، خبيرة تفيض قوة الرجاء مما ينشده الفن الرفيع في لحظات الإنسان الفاصلة على محك التجربة المرة. يرضخ العجوز لطمأنة الممرضة بعد الطبيب، ولكن قلقه ما استكان متأثراً بالرجاء الذي يكاد يتلاشى في اعتياد التفاصيل اليومية: « سيبرد دون غطاء. قالها للممرضة، فطمأنته: لا تخف، سأعتني به وسيكون بخير. وخطت تخرج، وهو طائع في أثرها: تفضل. أجلسته.. وصوتها: إذا أردت شيئاً فنادي علي. رفع وجهاً كسيراً إليها. لون الكركم بوجهه. داهمتها الرائحة... وتتحجج بالطبيب، صرخت: أنا قادمة. وأسرعت تركض بنفسها إلى الداخل هاربة..» (مرآة الغبش ص95). ويختتم الرفاعي القصة بتثمير البعد الرمزي إلى مداه خلل تعاضد العناصر الطبيعية مع الفعل الإنساني الحائر بين عوامل البقاء ورائحة الموت الهاجعة في قيعان النفس المؤرقة بدواعي الخطر؛ فما كان من العجوز إلا دوام يقظته وسط الإحساس المتفاقم بالمرارة. غير أن التأزم الذاتي سرعان ما ينفتح على أمل قاس يتبدى في تلك الخيارات الصعبة وما تستدعيه من تكاليف باهظة، كما في قصة «رنين مكتوم». تقرر ندى الذهاب لملاقاة سامي في مطعم بعد ست سنوات من انتظارها لزوجها حامد القابع في الأسر، أما والداها فيقولان: إن الشرع يجيز لها الزواج من جديد؛ لكنها محرجة بمعنى زواجها الأول من حامد: «ما تصورتني يوماً أعيش علاقة مع رجل، وأنا على ذمة حامد! ما كان سيئاً معي، ولكن سامي شيء آخر.. قررت أكثر من مرة الانسحاب، ولم أستطع. فكرت أن أنتقل من عملي. ولكن شيئاً ظل يصدني، تعرفت بشخص سامي على رجل طالما حلمت به، في أحيان كثيرة، رددت وحسرتي: لماذا تأخرت كثيراً يا سامي، لماذا لم أتعرف عليك من قبل؟ بكل ما فيّ أصبحت متعلقة بك، ولكن ماذا لو عاد حامد، ووجدني زوجة رجل آخر؟ بأي وجه أقابله وابنتي وأهلي وصديقاتي؟» (مرآة الغبش ص78). وتعرض قصة «الموعد نسمة» زاوية أخرى للموضوع إياه: الطبيبة نسمة تحب المعوق عزيز، وتمضي إلى خيارها. كان العائق في القصة السابقة الالتزام بالزوج الأسير، وغدا العائق في هذه القصة هو الالتزام بالأب المتسلط، وفي الحالتين ثمة سلطة هي التزام بالمواضعات الاجتماعية التي تتعارض مع الخيارات الجديدة. إنه التأزم الذاتي مع حرية مشروطة، ولذلك كانت اندفاعة الذات إلى حريتها أدخل في أمل قاس، ولكنه ليس قذراً على أي حال. وهكذا، كانت النهايات مفتوحة، فليس ثمة ظلام شامل، وليس ثمة إرادة مغلولة أمام أزمة الفرد العادي. وتعد أمثال هاتين القصتين انعطافة إلى مجاوزة قصص الرفاعي التالية مفهوم الجماعة المغمورة البسيط إلى مستوياته الأكثر تعقيداً، خلل إدغامه في احتضان دافىء لضغوط إنسانية وقومية أكثر شمولاً وعمقاً، وأشد رهافة وحساسية لمعنى التجربة الإنسانية المأزومة، مكابدة للإحساس المأساوي الكامن في فقدان التفاهم، وفي تفاقم الوحدة والفساد الم! تأصل في العلاقات السائدة. تمعن قصص الرفاعي في تشريح الشروط الإنسانية التي تؤدي إلى عذاب النفس والروح أو نفي الحياة نفسها. وتعرض قصة «وجوه المساء» لقسوة الشروط الإنسانية التي تؤدي إلى اعتزال المرء عن الناس؛ وكأنه وجه من وجوه نفي الحياة. لقد مل رمضان وضعه، وبات متيقناً أنه يزيد من تعاسة خديجة التي تعرف إليها أثناء عمله مدرب سواقة طوال النهار وبعض الليل. يشكو رمضان امتناع الحلم لديه منذ سنوات، إذ تتكوم الكتب على طاولته. إنه يعيش مع أمه منذ أن طردهما أبوه، والأم تلزم صمتها الموجع: آلام المفاصل واعتزالها الناس، وذكرياتها مع والده. وكانت خديجة ركبت معه قبل سنتين لتدريبها السواقة، إلى أن نجحت في امتحان السواقة الثاني، ثم دعته مرحبة بزيارته لبيتها، وأخبرته أنها كلمت والدتها عنه، وهي مطلقة، ولها ابنة صغيرة اسمها نورة. آثر رمضان الاعتزال عن الناس مثل أمه، ولكن إلحاح خديجة على دعوته للعشاء في بيتها، غيّر من الرتابة، فاعتاد على السهر عندهم. ثم يتناوب السرد شخوص القصة الأخرى، فتتحدث أم خديجة عن وضعها مع ابنتها وحفيدتها، وفرحتها بقدوم رمضان، ولكنه ما فاتحها بعد بالزواج من خديجة، ويسيئها غمز أختها، خالة خديجة، من تردد رمضان إلى البيت دون ما يشير إلى التزام ما بخديجة. تبكي خديجة في وحدتها، بينما ترجوها نورة قدوم رمضان، وتحاور الأم خديجة في موقف رمضان وحديث خالتها، فتغضب، مؤكدة، أو معللة نفسها أنه «صديق ولا شيء أكثر» ، مضيفة أن «الرجل له ظروفه.. الرجل سيسافر» ، وتنكفئ على نفسها، وتسيل دموعها: «هل أدلّل على نفسي» (أغمض روحي عليك ص15). وتبلغ القصة ذروتها العاطفية المؤسية في حديث نورة عن علاقتها بلعبتها، وعن عمو رمضان الذي سيسافر. " بابا رمضان طيب، لا يصرخ علي. يشتري لي ألعاباً كثيرة. سأطلب منه أن يظل معنا. لا أريده يسافر...» (ص18-19). غير أن رمضان يقرر مغادرة الكويت، فيودع البحر، وخديجة وأمها وابنتها، ويعترف، وهنا مغزى القصة وذروتها التي تشكل تأزم الفرد، وتورثه ما تورثه من عناء الحياة الناقصة، أنه ابن خادمة من أب لا يعترف ببنوته، وكان زاره مراراً، ووعده مراراً بالاعتراف به دون جدوى: «يصير خير»، ولكن الخير بعيد، وهو يوغل في عذابه، فيقرر السفر، ويتردد سؤاله، في مقاربة لمكمن التعاطف الإنساني: «هل تراني أعود لنورة؟!» (ص 28). طالب الرفاعي في قصصه من هؤلاء الصناع المهرة الذين يرتقون بسردهم الى مصاف رؤية عميقة للتعاطف الإنساني قلما نعثر عليها في قصص هذه الأيام. عبد الله أبو هيف