( ... مرّةً في بيروت ، رأيتُ الشعر: كان تائهًا حائرًا وخيّل إلي في تلك اللحظة أنه كمثلِ نحّاتٍ ينقش أعماله على جدران الريح ...) هذا ما قاله رجل الشعر الكبير (أدونيس) في مجموعته الشعرية: (ورّاقٌ يبيع كتب النجوم) الصادرة بطبعتها الأولى عام 2008م من دار الساقي، ليعمّق لديَّ الشعور بأن هناك أزمة حقيقية يمر بها الشعر تتمثّل أولا في الشاعر ذاته، الذي لم يجد ملجأ لتغرّبه الوجودي في هذا العصر، وانكفائه على ذاته، وغياب الحشود الجماهيرية عنه، وانفراط سبحة زعامته، بعد أن كان وزير إعلام القبيلة والمتحدّث الرسمي لها وحامل تاريخها المجيد.. ذلك العظيم الذي يتلقّف (الجمع) الكلام من شفتيه، وتلتوي أعناق التواريخ له، وتتناقله التداعيات كشاهدٍ عليها، ويتّكلُ عليه النحاة في تقويمهم لألسنتنا، أقول لم يجد له ملجأ إلا الشعر ذاته فصارع حتى عليه.. إذ تتمحور أزمة الشعر الحديث كما يبدو لي في الشاعر ذاته الذي يرى أن الشكل الشعري الذي يعتنقه هو الشكل الوحيد الناجي من هذه الأزمة، وأن ما سواه خارج على ملّة الشعر والشعراء، وهذه أزمة مركّبة وشائكة فكل مفاهيم الشعر تتغير بتغيرات الرؤى والثقافات والعصور، فلا يمكن لنا مثلا في هذا العصر الذي يتشظّى فيه الشعر على مدارات الوجود الإنساني أن نصفه بأنه: (كلام موزون مقفّى وله معنى)، ولا يعنى هذا نكوصا على تاريخه، فتاريخ الشعر ذاته يؤكد لنا أن مفهوم الشعر يتبدّل بتبدّل الثقافات والعصور، فالوقوف على الطلل مثلا في حياة البدو الرحّل شكل ركنا أساسيا من أركان بناء قصيدتهم الأولى، لكنهم حينما استقرّوا في حاضرتهم سخروا ممن يستعيدون الطلل ويتذاكرون مرابع اللعب.. أما قال رجلهم القديم أبو نواس: قل لمن يبكي على رسم درس واقفًا ما ضرّ لو كان جلس ..! ولهذا لا يمكن للشعر أن يخرج من أزمته هذه إلا أن يكتب الشعراء ذواتهم وثقافاتهم وأصواتهم المموسقة والمنثورة معا، ثم يشكّلون في فضاءاته أسرابًا لعصافير متعدّدة الألوان والطيران.. ويدركون قبل ذلك كله وبعده، أن الشاعر الحقيقي لا يكتب قصيدته الأجمل إلا حينما يموت، وأنه يظل طوال تكبّبه في مناكب الشعر بجغرافيته السائلة والمتحوّلة، أشبه بعصفورٍ يبني عشه على غصن شجرةٍ محمومٍ بالرقص... !