فرغم كل ما قيل وما كتب عن التطرف وعن التكفير وعن الخطاب الإرهابي ، لا يزال أكثر الناس في مجتمعنا لا يدركون أبعاد الظاهرة ، ولا يعون طبيعة تمدداتها ، ولا كيفية تناسلها يتميز تيار المتطرفين بنشاط كبير ، وأثر واضح ؛ لأنه تيار إيديولوجي بأقصى ما تكون الأدلجة ؛ ولأنه أيضا تيار مُنظّم ، تتفاعل وَحَداته ؛ لتحقيق السيطرة الحركية على أكبر قدر من رقعة الجغرافيا التي يتموضع فيها . إن هاتين الميزتين هما ما يجعل هذا التيار يبدو أحيانا أكبر من حجمه الحقيقي بكثير ، وكأنه تيار شعبي عريض ، بينما هو في الحقيقة تيار حركي محدود . وهذا التوصيف ليس سراً ، بل هو مشهد قابل للمعاينة المباشرة من قِبَل الجميع . تيار بمثل هذه الحيوية ، من الطبيعي جدا أن يُمارس الاختراق ، اختراق المؤسسات واختراق المجتمع أيضا . بل إن طبيعة وجوده هي طبيعة اختراقية ؛ لا وجود له بدونها . فهذا التيار بقدر ما هو خروج على المجتمع ، بقدرما هو غزو لهذا المجتمع بكل الوسائل الممكنة ، تلك الوسائل التي تحددها الظروف ، لا المبادئ ، والتي تبدأ من الكلمة الرقيقة الناعمة الحانية ، إلى حيث القتل والتفجير . إن هذا التيار هو في حالة حرب دائمة على مجتمعه ، سواء أعلن هذه الحرب ، أم لم يعلنها فالمستهدف الأول ، وربما الوحيد ، هو هذا المجتمع ، المجتمع ذاته الذي خرج منه هذا التيار ؛ ليمارس عليه جريمته : جريمة الإرهاب . لكن ، يبقى السؤال الأهم ، وهو : إذا كان من الطبيعي أن يسعى تيار التطرف للاختراق على جبهتين : جبهة المؤسسات وجبهة المجتمع ، فلماذا كثيرا ما ينجح في مهمته ؟ طبعا الإجابة عن هذا السؤال هي التي تشخص المرض ، كما تحدد نوعية الدواء . فطرح هذا السؤال ابتداء ، يعني أن علينا لوم أنفسنا قبل أن نلوم المتطرفين . فالمتطرفون فعلوا ما تُمليه عليهم الإيديولوجيا التي يؤمنون بها ، وضمائرهم في غاية الارتياح . لكن ، ماذا عنّا نحن ؟ ، ماذا فعلنا لصد عدوانهم ؟ . وإذا كنا قد قدمنا كثيرا من الجهود الفكرية والعملية ؛ مما قد يوقف زحفهم على مؤسساتنا ومجتمعنا ، فهل فعلنا ما فيه الكفاية ، أي هل كانت أفعالنا على مستوى التحدي الذي يطرحه وجود هذا التيار الخطير بيننا ؟ في تقديري أننا لم نفعل ما يكفي ، أو ما يوازي حجم الخطر . والدليل على ذلك أن هذا التيار لا زال مؤثرا وقادرا على اختراق الوعي الاجتماعي ، كما هو قادر على اختراق المؤسسات ، وخاصة المؤسسات التعليمية والإرشادية والإعلامية ، فضلا عن غيرها . صحيح أن السنوات العشر الماضية شهدت تراجعا كبيرا في حجم نشاطاته ، بل وفي انحساره كخطاب ؛ نتيجة سلسلة الفضائح التي قام بها جناحه العسكري . لكن ، هذا ليس هو الضمور المأمول الذي يصل به إلى درجة تضاؤله كخطر حقيقي ، كخطر يمكن أن يعود بنا إلى فترة الإرهاب . لقد نجحنا في صد عدوان هذا التيار ، لقد قَلَّمنا الزوايا الحادة من مخالب الوحش المفترس . لكن ، بقي الوحش حياً ، قادراً على استعادة مخالبه ، كما هو قادر على الإنجاب ؛ إذ لم نقم بتعقيمه بالمستوى المطلوب . وهذا يعني أننا لم ننجح بما يكفي لنتأكد من زوال الخطر ، ولو للعقود القليلة القادمة . ويرجع هذا الفشل في اجتثاث الفكرة واجتثاث الكوادر الفاعلة إلى أسباب كثيرة . ولعل أهم هذه الأسباب ما يلي : 1 الآنية التي تطبع سلوكياتنا ، والتي تجعلنا نستشعر الخطر في مرحلة الخطر ، بينما تتضاءل درجة إحساسنا به بمجرد أن نتجاوز اللحظة الحرجة التي نجد أنفسنا فيها في مواجهة ما يهدد حياتنا . وهذا ما استغله المتطرفون فينا ؛ فانحنى كثير منهم للعاصفة إبان استشعارنا للخطر زمن تفجيراتهم ، بل وجمّدوا كثيرا من أنشطتهم ؛ ريثما تهدأ العاصفة ، وننسى ما حدث بالأمس القريب . 2 الطيبة التي تصل بنا أحيانا حد السذاجة . فنحن لا نفرق بين أن نتسامح مع خطاب أخطأ وتراجع عن مقولاته وأعلن نقض مبادئه الأولى ، وبين خطاب آخر ، خطاب صَمت ، أو توقف ليسترد أنفاسه ، أو هو فقط لم يَعُد يُصرّح بكثير مما تزخر به مرجعيته التقليدية من تكفير ودعوة صريحة إلى العنف ضد ( كل ) الآخرين . بمعنى أن هناك فرقاً بين أن تتسامح مع من اعتدى عليك وأعلن اعتذاره ، وبين من اعتدى عليك وطلب منك العفو ؛ بينما هو قد جلس يُخطط لعدوان آخر عليك ، عدوان تفرضه عليه منظومته التقليدية التي لم يعلن تراجعه عن مبادئها الأساسية ذات النفس التكفيري / الإرهابي الواضح . وللأسف لم نعِ بالمستوى المطلوب أن التسامح مع الأول فعل إيجابي يشِفّ عن وعي حضاري متسامح ، بينما التسامح مع الثاني لا يكشف إلا عن عجز ، أو عن غباء ، أو عنهما كليهما . 3 الفهم المغلوط للتدين ، ولطريقة التعامل مع تمظهرات الديني ، وهذا ما جعل المجتمع بجماهيره وبمؤسساته يُعطي تعريفا مغلوطا صريحا أو ضمنيا للتدين ، تعريفا لا يُركز على المبادئ الأساسية ولا على غاياتها الإنسانية ؛ ومن ثم لا يربطها بمظاهر التطبيق التي تُمثّل التأويل العملي ، وإنما يكتفي بمجرد الشعارات والمظاهر الشكلية . لقد أصبح من يرفع شعارا دينيا أو يتقدم بخطاب ديني لا يجد من يُسائله أو يعترض عليه ؛ لمجرد نوعية الشعار وطبيعة الخطاب ، وكأنها عصمة أو حصانة لا تقبل النقاش . لا شك أن كثيرين يعتقدون أنهم بخضوعهم لأي تمظهر ديني ، وتسليمهم له ، هو من علامات التدين التي يتم التقرب بها إلى الله . وهذا من أخطر منافذ الاختراق . إن هذا الفهم المغلوط ، جعل من السهل على المتطرفين أن يخترقوا العقول والمؤسسات ، وذلك أنهم عبر هذه النافذة استطاعوا إيهام كثيرين أن التصدي لخطابهم هو نوع من التصدي للدين . وحتى أولئك الذين توجسوا منهم ، لم يستطيعوا التصريح بذلك ؛ لأنهم لا يريدون فقدان قبولهم الاجتماعي . وهذا أثّر على حصانة المجتمع ، كما أثر على حصانة المؤسسات ، إذ أصبح هناك من يريد تأكيد تدينه بواسطة التظاهر بتقبّل كل الشعارات الدينية ، بل وبواسطة الترحيب بالمتشددين ، حتى ولو كان على صورة : تمكينهم من مراكز التأثير ، ومنحهم فرصاً لا تتكرر لتعزيز رمزيتهم في الفضائين : الديني والاجتماعي . 4 عدم فهم خطاب التطرف . فرغم كل ما قيل وما كتب عن التطرف وعن التكفير وعن الخطاب الإرهابي ، لا يزال أكثر الناس في مجتمعنا لا يدركون أبعاد الظاهرة ، ولا يعون طبيعة تمدداتها ، ولا كيفية تناسلها . كثيرون يعتقدون أنه لابد أن يصدر عن هذا الشخص أو ذلك الخطاب مقولة صريحة في تكفير المجتمع ومؤسساته حتى يُمكن الحكم عليه بأنه تكفيري خطير . إنهم لا يأخذون التطرف كبنية عامة ، ترتبط بالمنظومة التقليدية ذات المنحى المتشدد الطافح بالتكفير ، بل يعزلون المسائل ، وكأنها لا تنبع من مدرسة واحدة ، أو كأنها (جُمل) مستوردة يتم استيرادها من وراء المحيطات ، ومن أماكن وثقافات شتى . الجهل بهذا الخطاب جعلنا ننتظر من التكفيري أن يُكفرنا صراحة ؛ حتى نسمح لأنفسنا بأن نتوجس منه ، وأن نكف لسانه ويده عن الفتك بنا . هذا الجهل العريض جعلنا لا نربط بين الآراء المتشددة في المسائل التفصيلية التي ترتبط بمجمل السلوكيات ، وبين مقولات التكفير المنتجة لخطاب الإرهاب . بينما في الواقع يجب الربط ؛ لأن ما ينتج هذه وتلك هو عقل واحد ، ومدرسة واحدة ، ذات منهج واحد . ولا يمكن للجهل بهذه الحقيقة إلا أن يقودنا إلى أن نحذر من (عشرات) المتطرفين ؛ بينما نحن نستقبل ( الآلاف ) منهم بالأحضان ، ونفتح عقولنا وقلوبنا لهم دونما توجس أو ارتياب . الغريب أن المشكلة لا تقف عند هذا الحد . فكل ما سبق ذكره من أسباب ، لا يوجد بكثافة عند جماهير التقليدية ، ولا عند عموم الجماهير فحسب ، وإنما عند كثير من المثقفين والإعلاميين والمعنيين بالشأن العام أيضا . وهذا يعني أن قادة الرأي ، وموجهي قنوات التأثير لديهم القابلية للاختراق ؛ مع أنهم أقوى الجبهات وأشدها إسهاما في صد عدوان خطاب الإرهاب . أزمة كثير من المثقفين أنهم إذ يتبنون خطاباً في التسامح ، يعتقدون أن من مستلزماته التسامح حتى مع دعاة القتل والتفجير . طبعا ، هم لا يقولون ذلك صراحة ، وإنما يعزلون الشخصية أو الفكرة عن المدرسة أو المنظومة التي أنتجت المقولات أو الأشخاص . لا زلت أذكر أن بعض كُتابنا ومثقفينا ، وعلى خلفية لقاءاتهم على هوامش الحوارات الوطنية ، كتبوا مشيدين ببعض الغلاة ؛ لمجرد أنهم جلسوا معهم، ولم يروا في آرائهم أثناء تلك الجلسات تكفيرا أو تطرفا ، بل ربما استشعر بعضهم أن مجرد جلوسهم معهم هو دليل تسامح وشهادة بعدم التطرف بينما لو أن الكاتب سأل هذا المتمظهر بالتسامح عن منظومته الفكرية التي يمتاح منها ، والتي يُجلّ ويُبجّل تاريخها دون انتقاد أو استثناءات واعتراضات ؛ لأحاله إلى أكبر منظومة تقليدية أنتجت التكفير ، ومارست القتل بناء على رؤيتها الخاصة في التكفير . كثيرا ما أخشى على دعاة التسامح ، من المثقفين خاصة ، والليبراليين على نحو أخص ، من تجاهلهم للمرتكزات الفكرية التي يقف عليها كثير ممن يتواصلون معهم من التيار المتشدد . وكُلما رأيت كاتبا تقدميا أو تنويريا أو ليبراليا يُثني على من لا يزال يُشيد بالمنظومة التقليدية بكل ما فيها ؛ تذكرت قول صلاح عبدالصبور رحمه الله : ورَفاقي طيبون ربما لا يملك الواحد منهم حشوة فم ويمرون على الدنيا خِفافاً كالنسم ووديعون كأفراخ حمامة وعلى كاهلهم عبء كبير وفريد عبء أن يُولد في العتمة مصباح وحيد