يقول الحريري في إحدى مقاماته (الشعرية): يا خاطب الدنيا الدنية إنها شرك الردى وقرارة الأكدار دار متى ما أضحكت في يومها أبكت غدا، بعدا لها من دار والأضداد تظهر حسن أو سوء أضدادها " و الضد يظهر حسنه الضد"، والتبدل والتغير من طبيعة الحياة التي لو استمرت على حال لملها البشر، ولو لم تكن الحظوظ والحظوات فيها متفاوتة لفقد الطموح، ولتضاءلت الآمال. ولعل البؤساء خير من كان التفاؤل يملأ نفوسهم والرضا يصرف عنهم الاحقاد، ويفسح أمامهم سبل التطلع الى مستقبل أفضل،ومن أولئك الشاعر الينبعي محمد نور أبوطالب الذي ابتلي في صباه باليتم والفقر والعمى فلقي ألوانا من الشقاء ظل متفائلا مرحا حاضر البديهة والنكتة ،فأحبه الناس،ووجد من إعجابهم بشخصيته وابداعه الشعري ماجعل السعادة تواري معاناته، فلا يفقد من جمال الحياة غير التآلف والتواصل مع الناس، لذا كان ألمه كبيرا عندما شاهد أبناء ينبع يرحلون إلى مدن العمل والكسب مثل جدة ومكة المكرمة والرياض والمنطقة الشرقية وغيرها، عندها شعر بمرارة التفرق وبالتصدع الذي استهدف تجمعات الجوار واجتماع الاصدقاء ،وأدرك خطورة ذلك وألا مفر من هذا المصير الذي لم يكن ليخطر على بال، ولم يكن متصورا حدوث النهضة التي شهدتها بلادنا بعد ذلك، وبخاصة ينبع التي تشهد اليوم تطورا كبيرا وتقدما مطردا في كل مجالات الحياة، كما شهدت عودة كثير ممن نزح عنها وبعد ان فارق الشاعر الحياة. ولكن شفافية الشاعر وهو يرى ملامح التغير تلوح في الأفق عز عليه أن يخلو مجتمعه من التلاقي وما يصاحبه من تفكه وتراحم، فأدرك أن فات الأوان على تلافي حدث رحيل الأسر والافراد فقال: ياينبع اليوم ماامديكِ ماعاد فيك العلاج يفيد بس انصحك آه واوصيكِ جمع الأحبة نهار العيد هكذا تروى هذه الكسرة واعتقد انها هكذا: يا ينبع اليوم ما يمديكْ ماعاد فيك العلاج يفيد بس انصحك آه واوصّيكْ جمع الأحبة نهار العيد فذلك أقربُ الى نسق الكسرة ولا يخل بنسيجها. ولقد أصبح العيد في جميع أنحاء المملكة فرصة لتجمع أبناء المناطق في مساقط رؤوسهم، وفاء للروابط الاجتماعية، وإحياء لذكريات وتراث الماضي، وتجديدا لمشاعر الولاء للوطن، وتهيئة لاستئناف الحياة العملية في مدن الاقامة. أما عن التفاؤل الذي أشرنا إليه وقلنا إنه من سمات البؤساء، فيتجلى في أبيات شكوى للشاعر فيها معاناة في مطلعها وأمل في البيت الثاني والأخير من الأبيات، وتضجر من مجافاة الراحلين مشغولين بحياتهم الجديدة، حتى المراسلات لم ترد في ذاكرتهم، ولقد تجرع الشاعر من حاله البائسة،وأحوال الناس الذين يحلمون باللحاق بالراحلين،وهذا ماجلته الأبيات التالية التي تتسم بلغة سهلة ،وطرح حزين،طرحه كما جاء على لسان الشاعر أبلغ من أن نقدم له أو نشرح مفرداته: ياما جرى للعريباني وايَّامها القاسيةْ ما تْلين يشرب من المر ويضاني مستنظر المقابلات تزين لا احد نشد قال هذاني والكل على الحال مطّلعين كذا كذا والعمر فاني وافكارها الساقمةمسكين ويقول الأيام كفاني يا الله يا ربنا يا معين وجورك من الناس وراني ماينفع الود في الجافين تراكم السقم واذاني من اللي على البال مخبورين ما يوم مكتوبهم جاني صاروا عن المعرفة ساهين ويا ينبع اليوم صُحْباني كلا نوى درب ومناحين واللي على الدرب وافاني ما اعده الاَّ من الماشين لاقوا من الغلب ألوانِ ِ عن جوك اليوم ومصدّين ولابد من يوم سلطاني للي هنا والذي مقفين نعم لقد وجد المغادرون والباقون حياة رغدة في ظلال الحياة الجديدة، وهو ما توقع الشاعر حدوثه من رفاهية ورخاء.ولكن هم الشاعر في تفرق أصحابه وأصدقائه أشتاتا، وشعوره بالطوفان الذي جرف المقتدرين الى خارج مجتمعهم ، وبقي هو مثل السيف فردا. ثم يلتفت الشاعر المسكين إلى وضعه في مجتمع لم يعد به من يعطف على كبريائه ممن تعود منهم مواساة عزته وكرامته، وتقدير فنه وابداعه، ووجد نفسه حبيس المرض والعمى والحاجة،ولكنه ظل عزيزا في مجتمع لم يعد كما عهد فقال أبياتا تجد فيها كبرياء الشاعر وعزة نفسه، وايمانه بقضاء الله وقدره،فأخذ يعاتب نفسه ويرد ماحدث له بأسباب ذنوبه وليس له إلا أن يحاكم نفسه ويستفتيها وأن يلتفت الى العبادة والاستعانة بالله،معلنا تفاؤله بقوله: احنا سمعنا مثل مفتي : سموم بعده يجي هتان فالسموم والقيظ يعقبهما فصول الأمطار والخير،أما الأبيات فهي: لاصد واقفل على نفسي ما اهينها لأيها إنسان لكن مقادير في حبسي صابر على لوعة السجان واوصيك يا العين لاتبكِ خلّي دموعك عسى تنصان وكبِّي الأمارات والتفتِ لعبادة الخالق الديان لوما حصل ذنب واذنبت ِ ماصار زودك على نقصان واللي جرى منك لي يكفى لاتتلفي قلبي الحرقان وان كان بالحق وافقتِ باللي مضى في اول الأغصان احنا سمعنا مثل مفتي سموم بعده يجي هتان ياالله يامفتهم قصدي يامستمع صيحة الغرقان ياغافر الذنب للمخطي المدعي يطلب الغفران أما النبي فيه ما نخطي مرسول جانا من الرحمن أعرج به الرب للقدسِ ومثبوت في مصحف القرآن إن السجن الذي يشير إليه الشاعر هو إصابته بالعمى،والأبيات الأولى والثانية على وزن الكسرة ولكنها ليست كسرة لافتقادها إلى الايجاز والتكثيف ولتعدد موضوعاتها ولزيادة عدد ابياتها عن بيتين كما هي الكسرة. وللشاعر كسرات كثيرة تعد من أروع الكسرات، وكما نرى في الأبيات التي أوردناها وضوح الشعر الشعبي الحضري واشتماله على الحكمة والمفردات المتداولة في المدينة والقرية.