في ذكرى اليوم الوطني ، تطفو على السطح رؤية إصلاحية شاملة لملك البلاد كان قد ذكرها في كلمته لدى افتتاح أعمال مجلس الشورى بالقول " إننا لا نستطيع أن نبقى جامدين والعالم من حولنا يتغير ومن هنا سوف نستمر بإذن الله في عملية التطوير وتعميق الحوار الوطني وتحرير الاقتصاد ومحاربة الفساد والقضاء على الروتين ورفع كفاءة العمل الحكومي والاستعانة بجهود كل المخلصين العاملين من رجال ونساء وهذا كله في إطار التدرج المعتدل المتمشي مع رغبات المجتمع المنسجم مع الشريعة الإسلامية". استطاعت السعودية إلى حد كبير تحقيق معادلة متوازنة رغم واقع المعطيات وظروف العصر وتصاعد وتيرة التحولات ، لأنه بتحليلها معرفياً واجتماعيا، يمكن الوصول إلى فهم نجاح التجربة الوحدوية للمؤسس واستمرارها في منطقة لم يُعرف عنها سوى التوتر وعدم الاستقرار على أنه من الطبيعي أن تنضج التجربة السعودية عبر التاريخ وتتراكم خبرات قادتها ورجالاتها لتجسد استقراراً سياسياً وأمنياً مقبولاً في ظل معطيات وتحولات في منطقة غير مستقرة. ومما يلفت النظر هنا هو المحاولة للانتقال إلى مرحلة «القوننة»، بمعنى تحويل هذا الفكر الاجتماعي، ونهج الفلسفة السياسية لديها إلى قوانين وتشريعات، تستمد نبراسها وخطوطها العريضة من مبادئ الشريعة الإسلامية، فلا تتقاطع معها، بل تتناغم مع ما حولها ضمن فكرة «المزاوجة». على أن ابرز عناوين هذا العام وانجازات الوطن تتمثل في مواجهة الفساد وترسيخ مبادرة المصالحة العربية في جولات الملك ، والاهتمام بالتعليم العالي باستمرار مشروع الابتعاث وإنشاء جامعات، فضلا عن صدور الأمر الملكي الملفت بشان ضبط الفتوى حيث لاقى ترحيبا واسعا في الداخل والخارج . كان الملك عبدالله دائما ما يشدد على أهمية الاعتدال وضرورة البعد عن الغلو وهو ما دفعه لإصداره تنظيما يكبح ظاهرة "فوضى الفتاوى"، وذلك بهدف الحد من تشويه الشريعة وإثارة الفتنة واستباحة دماء المسلمين ، وهو أمر لو ترك على حاله لأنذر بكارثة دينية واجتماعية. على أن التفاعل المجتمعي يظل متصورا وطبيعيا في سياق التحولات الاجتماعية والثقافية وآلية التفكير التي تطرأ على أي مجتمع إنساني،وهي عادة ما تستغرق وقتا من اجل أن تتبلور لتتضح صورتها في نهاية الأمر، فتلك التحولات من طبيعتها التدرج والتراكم، كون الفهم عملية تحليلية تحتاج لمراحل متعاقبة لكي تنضج وتُؤتي ثمارها،لأن الدفع بالتغيير بوتيرة متسارعة نهايته الفشل والاحتراق. ولذا بتحليل المشهد السعودي بتنوع تجلياته، لا سيما في السنوات الأخيرة، نلحظ أن هناك حراكا ملفتا ونقاشات جريئة وطروحات تنويرية غير مسبوقة طالت ملفات اجتماعية ودينية وثقافية، لم يكن من المتخيل طرحها قبل عقدين من الآن. وإن كان هذا لا يعني انه لا توجد قضايا ومشاكل تحتاج إلى حلول مثلها مثل أي بلد، فالتطرف والفقر والبطالة والإرهاب ووضع المرأة ومسألة فك الاشتباك بين ما هو ديني، وبين ما هو اجتماعي ، كلها قضايا مطروحة وان كانت هناك شريحة ترفض البحث فيها، وهي حالة موجودة في اغلب المجتمعات وإن كانت بأشكال مختلفة وبفئات ذات أيديولوجيا مغايرة، إلا أن الغاية لدى أصحابها تهدف إلى إعاقة البناء من النمو، وشرخ الكيان الداخلي لأهداف ليست لها صلة بالصالح العام. كانت السعودية توصف بأنها أكثر دول الخليج انغلاقاً ، ولكنها تعيش اليوم حراكا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا . دولة عصرية وحديثة في إطار من المحافظة والتفاعل مع المتغيرات وذلك إدراكاً من القيادة أن ذلك يمثل ضرورة إستراتيجية وليست ترفاً، فالمملكة فضلا عن عمقها الإسلامي وثقلها العربي فإنها تُعَدّ إحدى الدول المحورية في المنطقة والخليج ، وليس مستغربا أن تكون السعودية محل اهتمام الكثيرين في العالم من كافة المراقبين والمحللين، نظرا لدورها في إحداث التوازن في سوق وأسعار النفط عالميًّا، ، ومكانتها الدينية المؤثرة في العالمين العربي والإسلامي . تعلم السعودية وهي في حركتها الدائبة المليئة بورش العمل والهيكلة، أن أمامها تحديات جسيمة سواء في الداخل أو الخارج. يأتي في مقدمتها وجود التطرف كفكر والإرهاب كسلوك، ناهيك عن التمدد الإيراني في المنطقة وما يقوم به من أفعال تمس القضايا العربية. وهاهي تواجه حربا ضروسا مع الإرهاب والمتطرفين، وتسعى أيضا لمنع خطف القضايا العربية. إن من يتأمل كلمات خادم الحرمين الشريفين ، يلحظ أن نقد الذات والتفاعل مع لغة العصر والانفتاح على العالم، مفاهيم بلورت نسيج الخطاب السعودي الجديد، وبالتالي أفرز مفاهيم الحوار وأهمية الوحدة الوطنية والاختلاف والرأي الآخر، لأن لغة العصر قد تغيّرت، ومفاهيم العلاقات الدولية أخذت منحى مختلفاً من حيث التوازنات والعلاقات وحتى من حيث اللغة ذاتها. في زيارته لمنطقة القصيم، بعد توليه الحكم أكد على ضرورة إرساء مبدأ المساواة بين المواطنين دون تمييز بسبب الانتماء المذهبي أو الفكري أو غيرهما، عندما قال: "أصارحكم القول إنني أرى أنه لا يتناسب مع قواعد الشريعة السمحة ولا مع متطلبات الوحدة الوطنية أن يقوم البعض بجهل أو بسوء نية بتقسيم المواطنين إلى تصنيفات ما أنزل الله بها من سلطان". الرسالة كانت واضحة ،لا مساومة على الدين والوطن. لقد جاءت على خلفية تراشق إعلامي بين أطراف محسوبة إلى هذا التيار أو ذاك، فضلا عن المسألة الطائفية في الخليج التي كانت إفرازاً لتداعيات الاحتلال الأمريكي للعراق. كما أن استشراف المستقبل والتهيؤ له، من المفردات التي مارستها القيادة، فخطوة الملك الدستورية حين أقدم على تطوير نظام الحكم بإعلان نظام هيئة البيعة مراعيا الاستحقاقات القادمة والمتغيرات الراهنة، فإنما أراد غلق الثغرات وما قد ينشأ من ظروف واحتمالات تهدد بفراغ دستوري قد ينشأ من غياب الملك أو ولي العهد أو كليهما معا، ما يعني ترسيخ مؤسسة الحكم واستمراريتها لتحقيق استقرار الوطن وحماية الوحدة الوطنية من التشرذم والتمزق والانقسام. السعودية، كدولة، تعيش تحولات داخلية، وتتأثر بالمتغيرات الدولية، ولديها أخطاء وهفوات مثلها مثل أي دولة أخرى، غير أن حمى النقاش التي تتناولها وسائل الإعلام من قضايا جدلية وخلافية، فهدفها في تقديري بلورة أفكار ورؤى للقضايا المختلف عليها من اجل دفع المجتمع للأمام والبناء، وليس خلق صراعات فكرية وعقائدية لا يرتجى منها سوى الدمار والهدم كما حدث في دول عربية كان أبرز ما ميز سياستها لاسيما في النصف الثاني من القرن الفائت، الانقلابات العسكرية والتصفيات الدموية والمؤامرات المنظمة. ومع ذلك استطاعت السعودية إلى حد كبير تحقيق معادلة متوازنة رغم واقع المعطيات وظروف العصر وتصاعد وتيرة التحولات ، لأنه بتحليلها معرفياً واجتماعيا، يمكن الوصول إلى فهم نجاح التجربة الوحدوية للمؤسس واستمرارها في منطقة لم يُعرف عنها سوى التوتر وعدم الاستقرار..