مهمة تاريخية تلك التي أنجزها المؤسس الملك عبدالعزيز حينما شيّد في خلال نصف قرن كيانا ثابتًا مترابطًا من قبائل شتى لتصبح دولة في لوحة وطن. يقول جيرالد دي جوري "من الصعب أن نتخيل تغيرا جذريا يحدث بشكل اكبر في مثل هذا الوقت القصير، وذلك راجع إلى العناصر الأربعة اللازمة للسيطرة على البدو العرب وهي: الذكاء، وسرعة الخاطر، ومعرفة الحاكم الكاملة بأسباب قوته، وان يتمتع بقدرة على الحركة اكبر من تلك التي لدى القبائل، والفهم الكامل لعادات والتقاليد القبلية وبهذه العناصر وحد عبدالعزيز المملكة وصهرها في بوتقة واحدة" (الملك عبدالعزيز رؤية عالمية - دار القمم للإعلام -1994). الأمير سلمان بن عبدالعزيز وهو المؤرخ والعاشق للتاريخ والمرجع في تاريخ أسرة آل سعود يؤكد بأن الأساس الذي قامت عليه الدولة السعودية، كما جاء في كتابه «ملامح إنسانية من سيرة الملك عبد العزيز» هو أنها قامت على أساس الكتاب والسنة ولم تقم على أساس إقليمي أو قبلي أو آيديولوجي، وأشار إلى انه " في الوقت الذي كان البعض ينادي بالوحدة العربية على أساس قومي دون تطبيق، انبرى يحقق تلك الوحدة عملياً في أغلب أرض الجزيرة برجاله الأوفياء في كل مكان في هذه البلاد. ورغم أن عبدالعزيز عدناني من جهة الأب، وقحطاني من جهة الأم، وتعكس عروبته الأصيلة هذه قوميته، إلا أن انتماءه للإسلام، ولهذا قامت المملكة العربية السعودية على الكتاب والسنة، وليس على قومية ضيقة أو عصبية مقيتة" وبالتالي فهو يراها بأنها أول وحدة عربية في جزيرة العرب بعد دولة الإسلام الأولى. ، فتطبيق الشريعة الإسلامية ونقل البيئة البدوية إلى مجتمع مدني بتدرج ومن ثم الشروع في تشكيل الدولة، هو في حقيقته انعكاس لشخصية سياسية ملهمة، رغم أن البيئة آنذاك من فقر وتخلف وجهل لا تساعد على إنتاج عقليات فريدة على أن نجاح مشروع عبدالعزيز السياسي، يكمن في النهوض على مفاهيم واقعية، ولذلك لاقى النجاح آنذاك، فتطبيق الشريعة الإسلامية ونقل البيئة البدوية إلى مجتمع مدني بتدرج ومن ثم الشروع في تشكيل الدولة، هو في حقيقته انعكاس لشخصية سياسية ملهمة، رغم أن البيئة آنذاك من فقر وتخلف وجهل لا تساعد على إنتاج عقليات فريدة كتلك، وهو ما أثار اهتمام المؤرخين والمتابعين، وبالتالي هو ما أعطى لشخصية عبدالعزيز ذلك التوهج والتميز. ومع أن سمات عبدالعزيز الشخصية ساهمت بلا أدنى شك في خروج مشروعه الكبير للنور، إلا أن النقطة المفصلية في نجاح بناء الدولة حينذاك يعود في تقديري إلى توطينه للبدو، لأنه أيقن بفطرته آنذاك انه لا يمكن لمشروع الدولة من أن ينطلق في تأسيس تنمية وحضارة من دون استقرار. كان الارتحال مؤشر خطر، ويقوض منجزه التاريخي، فما كان منه إلا أن بادر في إرساء معالم الدولة بتوحيد القبائل ونقلها من مرحلة التخلف والاقتتال إلى مرحلة أكثر تقدما وتحضرا ورقيا. استطاع الملك وقتها في أن يجعل الولاء للدين قبل القبيلة، وهو ما ساهم في قابلية الانتماء للدولة. وها نحن اليوم نستعيد شيئا من لمحات تلك المرحلة اللافتة بعد مرور ثمانية عقود على هذه التجربة الوحدوية غير المسبوقة، ما يدفعنا للتمسك بها من اجل حاضرنا ومستقبل أجيالنا القادمة. على انه من الطبيعي أن تنضج التجربة السعودية عبر التاريخ وتتراكم خبرات قادتها ورجالاتها لتجسد استقراراً سياسياً وامنياً مقبولاً في ظل معطيات وتحولات في منطقة غير مستقرة. ومما يلفت النظر هنا هو محاولة الانتقال إلى مرحلة التقنين، بمعنى تحويل هذا الفكر الاجتماعي، ونهج الفلسفة السياسية لديها إلى قوانين وتشريعات. وقد تزامن احتفالنا بذكرى اليوم الوطني مع خطاب خادم الحرمين الشريفين السنوي في مجلس الشورى، الذي لمس فيه كل متابع تشريحاً ذاتياً لمختلف القضايا المطروحة على المستويين المحلي والدولي، وانطوى على سِمات لصورة جديدة متشكلة لخطاب بات لافتا. إن الملك عبدالله بهذا التأسيس الخطابي، يرنو إلى تحقيق معادلة تكمن في الاستفادة من التراكمات المجتمعية، والاعتزاز بقدرات أبناء الوطن، فكانت رسالته دائما وأبدا ترتكز على وطن للجميع وخطاب تسامحي تعايشي،ورفض للتمييز والتصنيف،وضرورة قبول النقد البناء. كما أن خطوة خادم الحرمين الشريفين اللافتة ، بإقدامه على تطوير نظام الحكم بإعلان نظام هيئة البيعة مراعيا الاستحقاقات القادمة والمتغيرات الراهنة داخليا وإقليميا ودوليا, إنما هدفت إلى ترسيخ مؤسسة الحكم وبقائها وحماية الوحدة الوطنية من التفكك والتمزق والانقسام. كانت السعودية توصف بأنها أكثر دول الخليج انغلاقا، ولكنها تعيش اليوم حراكا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. دولة عصرية وحديثة في إطار من المحافظة والتفاعل مع المتغيرات وذلك إدراكا من القيادة أن ذلك يمثل ضرورة إستراتيجية وليست ترفا. ولذا فمن يتأمل القضايا المطروحة في السعودية، والنقاش الدائر بشأنها، يلحظ أن هناك حالة من الحراك الثقافي والاجتماعي غير مسبوقة في المجتمع، وصل بها الحال للتطرق لمسائل مسكوت عنها لم يكن من المتصور طرحها أو الاقتراب منها قبل عقدين من الزمن لعوائق ليست مثار نقاشنا هنا. على أن هذا التفاعل المجتمعي يظل متصورا وطبيعيا في سياق التحولات الاجتماعية والثقافية وآلية التفكير التي تطرأ على أي مجتمع إنساني، وهي عادة ما تستغرق وقتا من اجل أن تتبلور لتتضح صورتها في نهاية الأمر، كون الفهم عملية تحليلية تحتاج لمراحل متعاقبة لكي تنضج وتُؤتي ثمارها. فمواضيع كقيادة المرأة للسيارة والانتخابات ومناهج التعليم والاختلاط والتطرف الفكري ومجالات عمل المرأة وغيرها من القضايا المثيرة للجدل، ُطرحت على الساحة، فما لبثت أن أفرزت مواقف متباينة بشأنها، فأبدى كل طرف وجهة نظره حيالها. على أي حال، المقام هنا ليس لإثبات صحة تلك المواقف من عدمها، بقدر ما أن المهم هو التأكيد على أهمية تغليب مصلحة الوطن على المصالح الفئوية والمناطقية والقبلية والمذهبية، ورغم ضرورة الحوار، فإنه يفترض في أن تكون مساجلاته وطروحاته ضمن أطره القانونية، ويجب ألا تكون هناك مساومة أو مزايدة على الوحدة الوطنية، فهي خط احمر لا يجوز المساس به لأنه يمثلنا جميعا، ناهيك عن القطعية مع أسس وثوابت الدولة. والسعودية وهي تواجه تدخلات إقليمية، وحربا شرسة مع الإرهاب، وفي خضم هذه المخاطر والتداعيات، كان من الطبيعي أن تُعيد النظر في تفعيل مجلس الأمن الوطني حيث إن ملامح المنطقة من الناحية الجيوسياسية تتعرض اليوم لموجة من الطموحات الإقليمية، فضلا عن حالة الارتباك في ترتيبات الأمن الإقليمي. وهنا يبرز دور القيادة السياسية حيث ترى شيئا قد لا نراه، ما يجعل النتيجة هي الاستقرار والنمو والبقاء، لاسيما في ظل ارتفاع الأصوات من كافة التيارات والتوجهات إلى تكريس الوحدة الوطنية وحماية تجربة عبدالعزيز ممن يحاولون إعاقة استمرارية نجاحها أو محاولة هدمها لا سمح الله، ولذا فالتمسك بها يجب أن يكون أول الأولويات، لأن التفريط بها يعني نهاية الحلم وضياع وطن لا قدر الله!!.