من طبيعة الحوار، أنه يفرز عادة مواقف متباينة وطروحات مختلفة وتوجهات متناقضة، وهذا يكشف لنا عن كينونته المؤثرة في حياتنا، وعن مدى ارتكازه كعمود من الأعمدة الرئيسية التي تستند إليها البنية الفكرية والثقافية لأي مجتمع الكلّ منا يحلم، والحلم من طبيعته النزوع إلى المطلق، وفي هذا سلب وإيجاب في آن واحد، فهو من جهة يحول المستحيل في لمح البصر إلى كائن وماثل، ومن جهة أخرى، يكون ذات الحلم، وتحديداً عند لحظة اليقظة، بداية معاناة لرحلة من الزفرات المنبثقة من الأعماق، فسرعان ما تلبث أن تنطفئ شموع الحياة وزهرات الأمل.. فالحلم شيء والواقع شيء آخر، وشتان يا سيدي ما بين الممكن والمستحيل. وحين نمضي نحو المزيد من المكاشفة، نقول ما زلنا كعرب ،إلا من رحم ربي، نفتقد الشجاعة الأدبية في نقد ومواجهة أنفسنا ونستمرئ المجاملات وخداع رجل الشارع البسيط وترسيخ الشعارات فضلا عن التابو، ناهيك عن «المسكوت عنه».. هذا لا يعني أن بعض مفكرينا لم يطرقوا هذا الجانب بقدر ما يعني أن بعض الساسة العرب لا زالوا يكرسون أساليب الانفعال والمغامرات فضلا عن الأحلام وما أدراك ما الأحلام!!. هذا واقع العرب الذي لم يعد ينطلي على أحد. هذه أزمة مخجلة، لا نخجل في إعلانها، لأنها حقيقة ، فصار وكأنه جسد مثخن بالجراح. وأشد ما يعانيه هو في آلية تفكيره، فعقليته تنفرد في نموذجها فهي لا تؤمن بالحوار، ولا تصغي للآخر، وترفض الانفتاح، وتتمسك بأيديولوجيتها ومصلحتها وانتمائها حتى لو تعارضت مع التوجهات الوطنية طالما ان المذهب والحزب والمال هو من يقرر أين الوجهة.! وانظر ما يحدث في العراق ولبنان وفلسطين.. تجد الضحية هو الإنسان. قال وزير الخارجية السعودي ذات مرة إن " أي تحليل موضوعي للأوضاع العربية خلال نصف القرن الأخير لابد أن يستنتج أن الأوضاع المتردية التي نعاني منها جاءت نتيجة قرارات مرتجلة انفعالية اتخذها الذين اتخذوها بدون تفكير في العواقب وجاءت النتيجة كارثية". هذه المقولة تختزل معاناة شعوب خلال حقب من الزمن. فهل ننعى زماننا لا سيما في خضم كل هذا الاحتدام والتنبؤات بالقادم من الأيام؟ وما هو المسوغ لكل هذه التصرفات التي تدفعا ضريبتها شعوبنا؟ وهل باتت مقنعة هذه التعاسة، لتفضح واقعنا المأساوي المزري؟ ترى ماذا لو كان الحوار هو الأداة التي نستند إليها في مناقشة قضايانا وإيجاد حلول لها؟ هل سيكون هذا وضعنا؟....هل ستكون هذه حالنا؟ سؤال حارق يبحث عن إجابة. من طبيعة الحوار، أنه يفرز عادة مواقف متباينة وطروحات مختلفة وتوجهات متناقضة، وهذا يكشف لنا عن كينونته المؤثرة في حياتنا، وعن مدى ارتكازه كعمود من الأعمدة الرئيسية التي تستند إليها البنية الفكرية والثقافية لأي مجتمع. على أن نتاجاته المتمخضة عنه مختلفة باختلاف الزمن والناس والطبقات التي يتألف منها المجتمع، فالمفاهيم التي قد تسمعها في مجلس يضم مجموعة مثقفين، وهي بمثابة طروحات ورؤى، لا يعني بالضرورة توفر مضمونها في مجلس قروي بسيط، إلا أنها تبقى في نهاية المطاف حوارا له سلبياته وإيجابياته، وهو رأي يقابله رأي آخر أو مخالف له في التعبير عن القضية التي تدور في فلك أي من المجلسين بغض النظر عن قيمتها المذهبية أو الفكرية أو الأيديولوجية. وطالما أخذت مناقشة هذه القضية أو تلك حيزا واسعا لطرح بنّاء وموضوعي متأصل بالحجج والبراهين، فإنها بذلك تساهم في خلق حوار صحي وتحفّز على تلاقح الأفكار. بيد أن البعض يجعل من ذلك الحوار فرصة للسيطرة والتباهي والإصرار على اليقينية ورفض الانتقاد واستهجان الرأي الآخر، وهذا يعود في ما أعتقد إلى بنيتهم الثقافية التي لا تستسيغ الفكر المخالف لطرحها أو الرؤية المتعارضة معها، وكأن لها إطارا محددا لا تسمح لكائن من ما كان بتجاوزه أو المساس به، وإن كانت هذه الفئة لا تعبر عن السلوك السائد للمجتمع، إلا أنها تبقى جزءا من تركيبته الثقافية ومؤثرا في سلوكه الاجتماعي. ولعل هذا ما دعا بعض المثقفين العرب إلى أن تعلو أصواتهم متهمين من يدعو إلى تكريس أحادية الرأي بتمزيق العقل العربي وتشويهه، ما جعله يقف موقف الرفض أو التشكيك إزاء الرأي الآخر لأنه يرى فيه تهديدا لأمنه أو لمذهبه أو لحزبه. ومن يتأمل التاريخ يلحظ أن الأنظمة والأحزاب والمؤسسات السياسية العربية مارست نفي «الآخر» وإرهابه، ولعل الانقلابات العسكرية والتصفيات الدموية والمؤامرات المنظمة، كانت أبرز ما ميز السياسة العربية في النصف الثاني من القرن الفائت. وتبقى الحقيقة الماثلة للعيان أن العقلية العربية تعاني من أزمة حوار، بل من أزمة عدم الإصغاء، فيا ترى ما هو السبب؟ إن من يتنقل بين المنتديات والملتقيات العربية سيصل إلى قناعة واضحة وفي جعبتها إجابة كاملة حول الانكفاء والتعثر والانهزام الذي علق بالعقل العربي، حيث تبدو التصادمات الناشئة في حواراتهم مغلفة بكوم من عبارات اللاذع والتهكم والسخرية. الحقيقة أن مثل هذا الأمر قد يكون مفهوما في ما لو صدر من طبقة أو فئة جاهلة غير متعلمة، أما أن يصدر هذا من شريحة مثقفة ويفترض أن تكون هي نخبة وقدوة، فذلك هو الخزي بعينه. ويبدو أن عدوى لقاءات القيادات العربية السياسية قد انتقلت وبكل جسارة إلى عالم المثقفين وساحاتهم، مما يفضح واقعنا، كاشفا عن أزمة ثقة. رب قائل يرى أن تراثنا العربي لا يقبل اندماجا مختلفا، وأنه ضد الرأي الآخر ويصوره في إطار البدعة والمؤامرة، وقد يكون في هذا الطرح بعض الصحة، إلا أن الطرح الأكثر صحة يرى في أن سبب هذه الانتكاسة هم القائمون على هذا التراث، من مفكرين ومثقفين وكتاب، لا التراث نفسه، وهو الذي يدعو في مجمله إلى التجديد من دون فقد الهوية. لذا علينا ان ننسلخ من مفاهيم المؤامرة وان الغرب يتربص بنا ، فالغرب لا يعنيه شيء إلا مصالحه، وعلينا ان نعامله بالمثل. إن الحل الناجع هو في أن نقبل الحوار كما هو، لا كما يراد له أن يكون، وعلينا أن نعترف بأن الأزمة ستبقى قائمة ما لم ترتكز على ثوابت الحوار ذاته، كالإصغاء للآخر والاعتراف بالاختلاف معه وإلغاء الرغبة المسعورة في إفنائه، وهذا يقتضى منا بالضرورة أن نركن إلى الاعتقاد بأهمية الحوار كركيزة في بناء ثقافتنا والنهوض بحضارتنا، منطلقين من زرع بذوره في أجيالنا الناشئة من أجل المنافسة في هذا العالم الذي لم يعد يرحم أو البقاء فيه على أقل تقدير.