الخبر الحزين المفاجئ نزل عليّ كالصاعقة المدوية، برحيل الصديق الغالي الأخ معالي الدكتور غازي القصيبي عن هذه الدنيا الزائلة، ذهول، ارتباك، سرحان، فقدان كامل للتوازن، لابد من التأكد عن المعلومة، الوقت يمر سريعاً، اتصلت بالوالدة - حفظها الله - مبلغاً بتأخر زيارتي اليومية تبعاً للفاجعة الأليمة، فبكت وأبكتني معها، ولم استطع اكمال المكالمة، لحظات محدودة لأجد نفسي متوجهاً للجامع في الديرة للصلاة على الراحل الكبير، حيث دعا له سماحة المفتي ب«الرحمة، المغفرة، والجنة» ومن ثم مرافقته لمثواه الأخير في العود. هول الفاجعة الأكبر بعدم رؤيته في أيامه الأخيرة، أفقدني القدرة على التعبير والتركيز، لا أدري كيف ابدأ الحديث عن علاقتي بأبي يارا، أحاول النظر والتمعن في الذكريات الراسخة عن تلك القامة الشامخة، كشموخ النخلة العربية العريقة، والتي تحتضن شخصية فريدة، بل مجموعة شخصيات في واحدة، «أكاديمي، سياسي، اداري، أديب، شاعر، كاتب، روائي». وأتذكر جيداً مقابلتي لمعاليه للمرة الأولى في وزارة الصناعة والكهرباء، حينما كنت طالباً في الجامعة، ومندوباً إعلامياً، اكتشفت حينها انني أمام شخصية إنسانية متميزة إلى أبعد الحدود، أهم ملامحها التواضع، البساطة، الأناقة، الجاذبية، الجدية، الوضوح، الاحترافية، الاستنتاج والمقارنة، النقد الذاتي، وكل ذلك مقرون غالباً بابتسامة ذكية مشرقة. وكانت أمامه مجموعة من التحديات المركبة، فمثلاً كانت الكهرباء مشكلة مزمنة، والانقطاع شبه يومي للتيار في مدينة الرياض والمدن الرئيسية الأخرى، عمل وكافح للبناء العاجل لعدد من المحطات الكبرى لتوليد الطاقة الكهربائية وبكفاءة عالية، وأسس المؤسسة العامة للكهرباء. وقد رافقته لافتتاح مصانع ومدن ومراكز صناعية، ويأتي في مقدمتها توقيع عقود المشاريع الصناعية في الجبيل وينبع، وكانت المدينتان عبارة عن صحراء قاحلة، ولاحقاً وخلال سنوات محدودة تشكلت كمراكز صناعية مهمة ومتخصصة، وتبعاً لذلك تطورت شركة سابك لتصبح من أكبر الشركات العملاقة المنتجة للبتروكيماويات في العالم. وعندما عمل وزيراً للصحة بالنيابة حاول بجهده المكثف والدؤوب معرفة مواطن الخلل، وطبق اجراءات حيوية وشاملة، ونفذ خطة تطويرية للمستشفيات، وأسس مراكز طبية في المناطق المختلفة، كما قام بجولات ميدانية «غير معلنة مسبقا» للنظر عن كثب للخدمات المقدمة ومشاكل المواطنين. وخلال فترة طويلة، ابتعد فيها عن العمل الحكومي، عمل فيها سفيراً في البحرين وبريطانيا، كان فيها دبلوماسياً بارزاً، ثم عاد للعمل ولفترة وجيزة كوزير للماء والكهرباء، وأخيراً وزيراً للعمل، حيث حاول تلمس المشكلات التي يعاني منها سوق العمل، وما يتعلق بالمواطنين الباحثين عن العمل وخاصة الشباب والشابات، أطلق «حملة توطين الوظائف» ، تجاوب معها عدد محدود جداً من الشركات، حيث قدم رجال الأعمال مصالحهم المادية الشخصية على المصلحة الوطنية!! ومما تجدر الإشارة إليه هنا، ان أهم ما تميز به هو قدرته الفائقة على «ادارة الوقت»، وخاصة ما يتعلق بالمواعيد الدقيقة المحددة، وبذلك استطاع وبنجاح أن ينفذ برنامجه اليومي موزعاً بين الجانبين الرسمي والخاص. فقد سخر حياته لخدمة الوطن والمواطنين من خلال المهام المتعددة التي شغلها، وكانت له الريادة المشهودة في جيل متميز وضع أمامه هدفاً واضحاً يتمثل في تنمية الوطن والمواطن، التخطيط السليم، واستشراف المستقبل. واضاف لأعماله الرسمية المتعددة والمتزايدة، فقد شارك مشاركات ايجابية وفعالة ضمن الوفود الوطنية في المؤتمرات المحلية، الاقليمية والدولية، ساعده في ذلك تأهيله العالي وتجاربه المتراكمة في العلاقات الدولية، ورغم أن وقته الخاص كان محدوداً جداً، فقد استثمره في انتاج أدبي وفكري متميز غزير شمل المقالات، الكتب، الدواوين الشعرية والروايات. وهناك جانب مهم جداً في حياته يتمثل في حرصه الشديد الدائم على أعمال الخير، وكان يوزع راتبه على الموظفين المحتاجين، كما ساهم مساهمة فعالة في تأسيس ودعم عدد من الجمعيات الخيرية والمهتمة بذوي الاحتياجات الخاصة. والآن وقد فجعت الأمة برحيل رائد من روادها وأبطالها العظماء، وفي شهر رمضان المبارك، المطلوب تخليد ذكراه بتسمية مركز للبحوث الجامعية، والدراسة العلمية لمؤلفاته المختلفة ليستفيد منها الوطن والأجيال، واطلاق اسمه على أحد الشوارع الرئيسة بمدينة الرياض، التي عمل فيها وأحبها ونظم فيها. لقد كانت عظمته في بساطته، وطموحاته ليس لها حدود، وبالتأكيد سأحتاج ولفترة طويلة للافاقة من هول الصدمة، وسأتذكر دوماً تلك اللقاءات واللحظات الخالدة التي جمعتنا خلال العقود الثلاثة الماضية، وسأفتقد الصوت الهادئ المعبر الواضح، والانصات لنبرة صوته المؤثرة وهو يلقي قصائده الشعرية، كما لا أنسى نظرته الثاقبة للأمور، والتي تعلمت منها الكثير والكثير، وأورد هنا مقولة «حلمك بالوصول إلى القمر، فإن لم تتمكن لا تقلق، فإنك ستسقط بين النجوم»، والحقيقة انه لم يرحل عنا، فقد انتقل مؤكداً لعالم الخلود. أبا يارا رحمك الله رحمة واسعة، وأدخلك فسيح جناته، لقد عشت عظيماً متميزاً، وتركت هذه الحياة الفانية وأنت كذلك، وهنا لا أملك في لحظات أليمة، قاسية وصعبة، إلا أن أتقدم لأبنائك يارا، سهيل، فارس، نجاد وأم يارا، وأسرة القصيبي جميعاً، بالتعازي القلبية الحارة الصادقة، وأرجو لهم من الله العلي القدير الصبر والسلوان. (إنا لله وإنا إليه راجعون). * مستشار إعلامي