أسلوب تلميع الأشياء القبيحة وتزيينها بمنحها أسماء جديدة تُسهل عملية قبولها واستساغتها لدى الناس أسلوب شائع ومعروف في زمننا هذا، وهو أسلوب طالما استخدمه السياسيون وغيرهم للوصول إلى مقاصدهم، أو لتحقيق مكاسب ومصالح لا يمكن تحقيقها من دون تمويه وخداع، فهناك من يُسمي البخل اقتصاداً، والجبن حذراً، والكسل قناعة، والاحتلال تحريرا، لمجرد الكذب والتدليس، وقس عليها مئات الأشياء التي نستطيع إلباسها لباساً لفظياً جديداً يجعلها أجمل بكثير في أنظارنا وأسماعنا من حقيقتها القبيحة. ونجد أن لبعض الشعراء الشعبيين أيضاً قدرتهم الفائقة على الاحتيال والتمويه ليكون لمضامين أشعارهم التي قد لا يستسيغها المتلقي كل القبول والاستحسان، كذلك الشاعر الذي خصص جزءاً من ديوانه الضخم لما سمّاه (الاستعطاف)، وحين تتأمل فيه تجد أن أدق ما يمكن أن توصف به بعض قصائد ذلك الباب هو أنها قصائد (استذلالٍ) لا (استعطاف)، فتشبيه الشاعر لنفسه ب (الكلب) الجائع الذي ينتظر (العظام) واللحم من ممدوحه لا يُمكن أن يُقنع أقل الناس فهماً ودراية بالشعر بأنه استعطاف؛ والأغرب من كل هذا هو أن الشاعر يتحدث في مُستهل ذات القصيدة عن عزة نفسه وكرامته المزعومة.. فأي عزة نفس وكرامة للإنسان حينما يرى نفسه كالكلب الجائع؟! وإذا كان الجاهلي علقمة الفحل هو من فتح باب الاستعطاف في الشعر وتبعه شعراء آخرون كالنابغة الذبياني والمثقب العبدي وكعب بن زهير والحطيئة وغيرهم، فإن بعض شعرائنا الشعبيين قد فتحوا باب الاستذلال في الشعر ووصلوا به إلى القمة التي لا أظن أن غيرهم سيتمكن من بلوغها قريباً. استدرار عطف الممدوح ليس بالأمر المخزي على أي حال، لكن يُمكن أن يأتي بأسلوب أرقى وأحفظ لماء الوجه من الأسلوب الذي لجأ إليه الشاعر السابق أو الذي يلجأ إليه بعض الشعراء في تصوير أنفسهم بصور تثير من الاحتقار، أكثر مما تثير من الشفقة والعطف، فالشاعر المبدع قادر على استعطاف الممدوح واستمالة قلبه مع احتفاظه بكبريائه وكرامته، وقادر أيضاً على منع عبارات التذلل من التسرب إلى قصيدته الاستعطافية وتحويلها إلى قصيدةٍ استذلالية. أخيراً يقول الشاعر خالد الحصيّن: مع كل درب يحوّل لتحت حوّلت هذا وعيني تشوف وأعرف خلاصي يا كثر ما سوّفت فالتوبه وقلت بتوب قبل الشيب يغزي النواصي والمشكله بأني على الذنب لا زلت وما غير أزيدك يالمعاصي معاصي!