الكثيرون لا يعرفون أن الجملة التي اختصرت أحوالا كثيرة من أحوال الشعر، واستطاعت أن تكون فضيحة الشعراء وطوق نجاتهم في الوقت ذاته، هي للشاعر “الحطيئة” وهو جرول بن أوس، من بني قطيعة بن عبس، الذي يكنّى باسم، أبي مليكة، ولقب بالحطيئة لقصره وقربه من الأرض.. والحطيئة شاعر عاصر الجاهلية والإسلام، وكان معروفا بسلاطة لسانه وولائه للشعر حتى لحظة مماته، وكثرة هجائه الذي يقال إنه لم يتب عنه إلا على يد سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. الخيال.. محرّض على الكذب “أعذب الشعر.. أكذبه”! هكذا عبرت جملة الحطيئة خمسة عصور وصولا إلى عصرنا هذا، ومازالت شماعة بعض الشعراء حينما توضع قصائدهم على محك المساءلة الاجتماعية أو العاطفية، لكنهم يتبرؤون من تلك المقولة حينما يصل الأمر إلى حدّ اتهامهم بأنهم يتبنون “عذب الكلام” الذي وبطريقة أكثر فظاظة قد يكون “الكذب”! خيال الشاعر مطيته التي يجنح معها إلى أحداث ربما لم تحصل، لهذا السبب يجد معظم الشعراء أن بعدهم عن الواقع حق مشروع ولا يعد كذبا، بل إنه حق حتمي أيضا فلا يعقل أن يحب الشاعر كل يوم، لكنه من المعقول أن يكتب قصائد غزل دائما، كما أن كثيرا من الشعراء يكتبون عن الغربة وهم يتربعون على صدور أوطانهم وفي بيوتهم ووسط أهلهم! وحتى إن كان شعرهم الاغترابي كاذبا في ظاهره وصادقا في باطنه، يبقى من حق الشاعر الذي قد تلهمه حمامة عابرة أو فكرة.. أو ربما وجه يصادفه في خياله ذات شرود.. أن يكتب ما يشاء، المهم أن يدسّ إحساسه فيه، والشاعر الذكي هو من يجعل القارئ يصدّق قصيدته حتى كذبه، بل يورّطه في الإحساس بها لدرجة الشعور أنها تحكي شعوره وهمّه الشخصي، حتى لو كانت القصيدة بمثابة فخّ لذيذ للقارئ. فضيحة الشاعر سابقا كان للشاعر العذب محمد علي العمري رأيه في وجوه القصيدة، ولعل رؤيته الغنية والذكية في آن، استطاعت أن تسجّل شكلا جديدا لقراءة تلك المقولة، حيث قال: القصيدة فضيحة الشاعر، لكنها أيضا وجهه الآخر، الذي يستطيع من خلاله أن ينافق ويحابي ويعادي بعيدا عن ملامحه الحقيقية، وحده القارئ الحقيقي يستطيع أن “يفضح” الشاعر من خلال عدة قصائد يرصد خلالها “عقدة” لا تبارح شاعرها حتى وإن كتبها بوجهه الآخر وتعمّد الاختباء خلفه، أما أجمل الشعر فهو ما لامس الجمال في نفس شاعره وقارئه بعيدا عن صدق الحدث من كذبه، لذلك سأضيف شيئا قلته قديما في لقاء وأتمنى أن أستطيع اختصاره لكيلا أطيل.. الصدق والكذب في الشعر لا يعنيان صدق الحدث أو كذبه، بل يعنيان صدق التقمص من كذبه، بمعنى أن الشاعر حين يكتب عن حالة لم يعشها أو لم تمر في حياته ويستشعرها جيدا، ويجيد كتابة أبعادها النفسية والفنية، فهي قصيدة صادقة رغم عدم حدوثها، في المقابل الشاعر الذي يكتب عن هم عايشه وعرف أبعاده ثم يخفق في الوصول بهذا الشعور للقارئ فقصيدته كاذبة رغم صدق حدوثها. لن أدين نفسي! تردد الشاعر هاني الفرحان قبل أن يدلي بدلوه في هذا الموضوع، واكتفى باختصار موقفه بالقول: أعتقد أن الشاعر الحقيقي والذكي لا يمكن أن يجيب عن هذه الأسئلة، أعتقد أنني لن أجيب، لأني لا أريد أن أنزّه نفسي فلست بهذا الغرور، ولست من الغباء بحيث أدين نفسي بالكذب. أنا لم أقل عن نفسي يوما إني شاعر، أنتم قلتم ذلك، وأنتم صدقتم ما قلتم.. وأنا كما قلتم شاعر فقط! وكانت هذه الالتفافة على الإجابة، التي قابلنا بها الفرحان، أشبه بالتضحية بالشعر لصالح كسب الصدق. 1 % كذب! من جهته كان الشاعر خالد بن نافع البدراني أكثر مباشرة في إجابته، حيث قال: بالتأكيد الشعر عموما مستمد من الواقع لأني أعتقد أن (الشعر موقف)، وهنا أريد أن “أتفلسف” قليلا وأقول، عند حدوث أي موقف محرض على الكتابة فإن القصيدة هي التي تبدأ بكتابة نفسها من خلال الشاعر وتحرضه على إكمالها وتطعيمها بنتاج ثقافته وفكره. ويرفض البدراني رفضا قاطعا مقولة الحطيئة، ويقول: لا أوافق على أن أعذب الشعر أكذبه، بل أؤمن إيمانا كاملا بأن أصدق الشعر أعذبه. لأن الشاعر إذا صدق في ترجمة الحالة التي عاشها عند كتابة القصيدة فإنها ستصل للمتلقي بصدق، وسيشعر بها، ويتفاعل معها بصدق أيضا. وحين طلبنا منه أن يمنح لونا لكذب الشعراء في قصائدهم، متوقعين أن يكون أبيض في طبيعة الحال، إلا أن خالد ألبس كذب الشعراء جلبابا أسود، وربما هذا ما يعزز انحيازه إلى فكرة أن أعذب الشعر هو ما ينبع من صدق التجربة. لذلك منح خالد الكذب في قصائده علامة 1 / 10 ، وأكدّ أن شعره لم يعرضه لمساءلة اجتماعية، عاطفية، عائلية، من قبل، ولا يتوقع حدوث ذلك.