مُنذ عُرف الشعراء وهم يمدحون وينتظرون مُقابلاً لأشعارهم التي يسهرون ويشقون لنظمها وتجويدها، ولكن أسلوب المدح ونوع العطاء يختلف باختلاف مقدرة الشاعر وغرضه من المدح وباختلاف الممدوح أيضاً، إذ ليس كل ممدوح بقادر على تقييم القصيدة ووضعها في المكان اللائق بها، وتنقل لنا كتب التراث العربي العديد من القصص التي تُدلل على قدرة بعض الممدوحين على التمييز بين أساليب الشعراء في المدح وتفضيل بعضها على بعض؛ فمما يُروى أن أبا العتاهية مدح عُمَر بن العلاء "فأعطاه سبعين ألفاً، وخلع عليه حتى لم يستطع أن يقوم، فغار الشعراء لذلك، فجمعهم عمر ثم قال: عجباً لكم معشر الشعراء ما أشد حسد بعضكم لبعض، إن أحدكم يأتينا ليمدحنا فينسِبُ في قصيدته بصديقته بخمسين بيتاً، فما يبلغنا حتى تذهب لذاذة مدحه ورونق شعره"؛ فكما نرى فالممدوح يتقمص هنا دور الناقد ويبحث عن (اللذة) الشعرية التي لم يتذوقها إلا في قصيدة أبي العتاهية التي أبدع فيها فكان جديراً بالثناء والعطاء. إذاً يُمكن القول بأن لكل قصيدة ثمن يتناسب مع فنياتها ولذتها لدى الممدوح، ففي بعض الأحيان يكون الشاعر جديراً بالمكافأة والشكر لجودة قصيدته وصدقها وجمالها، وفي أحيان أخرى تأتي المكافأة من الممدوح فرحاً بمبالغة القصيدة في رفع مكانته وإيصاله لمكانة لا يحلم بنيلها في الواقع، وأحياناً يُعطى الشاعر خوفاً من هجائه واتقاءً لشر لسانه، وفي أحايين كثيرة يكون العطاء للشاعر من باب الترضية و (جبر الخواطر)!. فلو استمع أشد الناس بُخلاً وتقتيراً لأحد شعرائنا الشعبيين وهو يُطالب الممدوح بأن يصفعه في سبيل كسب رضاه، أو استمع لشاعر آخر يصور معاناته مع الفقر ويستجدي بطريقة ذليلة ومُخجلة، أو استمع لقول أحدهم: شحاد جيت ومنك بروح شحاد تكفى تجمّل طال عمرك وعطني تاطا على خدي بجزمتك وش عاد كلش يهون إلا وصاويص بطني! لو استمع لقصيدة (استذلالية) من هذا النوع لما تردد في منح الشاعر بعض ما يملك على اعتبار أن ما يمنحه له سيكون بمثابة (بدل إهانة) يستحقه الشاعر الذليل أكثر مما تستحقه قصيدته المُخجلة التي لا تحمل أي سمة من سمات الشاعرية.