كلما سرتُ في شوارعنا ورأيتُ العدد الكبير من المخابز والمقاهي ومعارض الملابس والأثاث والبقالات والمطاعم ، وغيرها من المشاريع البسيطة والصغيرة التي يملكها مستثمرون أجانب ، اعتراني العجب من هذا الانتشار الكبير لهم في بلادنا ، وتمتعهم بهذه الفرص التي لا يتمتع بها مواطنونا ، وكان لابدّ من الدخول لموقع الهيئة العامة للاستثمار- الذي للأسف يعج بالأخطاء اللغوية والإملائية التي لا تليق ببلادنا التي أحسب أن لغتها الرسمية هي العربية الفصحى ، ولا تتناسب وحجم الأموال الطائلة التي تملكها الهيئة - لأجد تفسيراً لهذا الانتشار ! لست متخصصة في الاقتصاد ، ولكني أتكلم بلسان المواطن غير المختص الذي يرى زحفاً استثماريًا على بلادنا غير مسبوق ، وأموراً تتعلق بمنظومة الاستثمار تثير دهشته وتساؤلاته ، لاسيما أن معظمها يعمل لمصلحة الأجنبي ! كم كان أجدادنا صادقين ودقيقين في تعبيرهم عندما ذكروا النخلة العوجاء التي يسقط ثمرها في حوض غيرها ، ولعل السؤال الذي يفغر فاه هنا هو : إلى متى يتمتع الأجانب بخيراتنا وبعض أبنائنا لا يجدون حتى الفتات ؟ سؤال يجعلك تقف على حافة البكاء . ولعل أول ما يطالعك في الموقع العبارة الترحيبية التي تقول : عندما تكون على استعداد للاستثمار في المملكة العربية السعودية ،الهيئة العامة للاستثمار هي الوجه الودود للمستثمرين ! وحقيقة لقد صدقوا في هذه العبارة ، فلن يجد أي مستثمر وجها أكثر ودّاً وسماحة في العالم ، أعظم مما ادخرته له هيئة الاستثمار ! وتحت عنوان : لماذا السعودية ؟ تجيب الهيئة بذكر الأهداف الإستراتيجية الثلاثة للمملكة : " أن تصبح عاصمة عالمية للطاقة إذ إن الصناعات المتعلقة باكتشاف وإنتاج النفط الخام والمكثفات ، والصناعات الأساسية للمواد البتروكيماوية ، والخامات المعدنية والكهرباء والماء ، كل ذلك حيوي للاقتصاديْن السعودي والعالمي . أن تكون بالفعل ( هكذا ) مركز نشاط للنقل والخدمات اللوجستية بين الشرق والغرب ، إذ إن الطرق وخطوط السكك الحديدية والخطوط الجوية تخلق قاعدة مستهلكين ممكنة لأكثر من 250 مليون مستهلك يمكن الوصول إليهم جميعاً خلال ثلاث ساعات . أن تحدث تحولاً في صناعاتها القائمة على المعرفة مثل الرعاية الصحية وعلوم الحياة والتعليم وتقنية المعلومات فإن هذه الصناعات محفزات ضرورية لتطور مستدام طويل الأجل " . ولا ريب أنّ هذه الأهداف على درجة عالية من الأهمية لبلد كبلدنا ، يؤكد ذلك مما أوردته الهيئة من سعي المملكة لبناء أمة الرفاهية المستدامة ؛ حيث إن " المملكة العربية السعودية أمة تتطلع إلى مستقبل من نوع مختلف وتعدّ له ، هو المستقبل الذي يكون أكثر شمولاً واتساعاً واستدامة وتكاملية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي ، وهو المستقبل الذي يدور حول الاستثمار ، إن البنى الأساسية الجديدة للاتصالات ، وطرق النقل الجديدة ، والتجمعات الصناعية على أحدث التقنيات وفرص التدريب الديناميكي والالتزام بكفاءات اقتصادية أكبر ، كل هذه الأشياء وغيرها كثير سوف يأتي ( هكذا ) من خلال الاستثمار الذي هو محل اهتمام وتركيز السعودية ، الأمر الذي من شأنه أن يساعد على بناء أمة الرفاهية المستدامة ، لقد وضعت المملكة العربية السعودية أمامها تحدياً وهو أن تصبح أحد الاقتصادات العشر الأولى الأكثر تنافسية في العالم بحلول 2010 ، وذلك يجعلها المكان الواعد للمستثمرين الطموحين والشركات الذين يرغبون (أي : الشركات التي ترغب) في أن يكونوا جزءاً من مستقبل آسر وعظيم " . إن أهدافاً إستراتيجية كبرى كالأهداف الثلاثة السابقة ، والرغبة في بناء أمة الرفاهية المستدامة ، التي من أجلها سعت بلادنا لأن تكون بيئة استثمارية عالية ، تحرص على استقطاب رؤوس الأموال والشركات الكبرى التي تعمل في المجالات التي تتناسب وما نهدف إليه ، من جعل بلادنا عاصمة عالمية للطاقة ومركزاً للنقل والخدمات اللوجستية بين الشرق والغرب.. كل هذا لا يتناغم وكثيرًا مما ورد في الموقع خصوصًا في فقرة الأسئلة المتداولة التي ترد على ذهن من يريد الاستثمار لدينا ، منها : " ما هي القطاعات الاقتصادية المفتوحة أمام المستثمرين الأجانب ؟ " فتأتي الإجابة : " يسمح القانون للمستثمرين بالاستثمار في جميع القطاعات المتاحة في الاقتصاد السعودي ، ما عدا الأنشطة المذكورة على لائحة الممنوعات " ! وهذا يعني أنه يُسمح لهم بالاستثمار في كل ما يسمح للمواطنين بالاستثمار فيه ، حتى دكاكين الخياطة والأفران والبقالات ، فهل نحن بحاجة إلى استثمار من هذا النوع ؟ وهل يلبي هذا الاستثمار أهداف بلادنا الكبرى ؟ وألا يصبُ ذلك في مصلحة الأجنبي فقط ؟ ثم ألا تشكّل هذه الاستثمارات الصغيرة والتافهة مزاحمة للتاجر السعودي الصغير ؟ وكدأب معظم مؤسساتنا الحكومية والخاصة لن نجد أجوبة عن ذلك . وسوف يزداد عجبنا بل غضبنا عندما نعلم مقدار رأس المال المطلوب للاستثمار من الهيئة ، الذي يتناسب مع ما يمكن أن نسميه استثمار الخبز والفول والطعمية ، ومما جاء في هذا : " يختلف رأس المال المطلوب على حسب نوع العمل أو المشروع : 100,000 للمنشآت الخاصة " . ولا يذكر النظام ماهية المنشآت الخاصة فلم يحددها كما حدد ما بعدها ، مما يؤكد أنها أي مشروع صغير يفتتحه الأجنبي ليستفيد من مناخنا الاستثماري ، لاسيما أن هذا المبلغ ليس كبيراً ويمكن أن يملكه النجارون والسباكون والخبازون الأجانب ، وسيساعدهم الاستثمار في مبلغ كهذا على جني أكبر قدر من الأموال وإرسالها لأوطانهم ، وسيعمل على بقائهم فلن يغادرونا أبداً لأننا جعلناهم مستثمرين ورجال أعمال يساهمون في استفحال بطالة أبنائنا ؛ لأنهم سيستقدمون بني جلدتهم فلا شيء في نظام الاستثمار يمنعهم من ذلك ، فضلا عن المتاجرة في الفيز التي فاحت رائحتها ! أما الاستثمار في الشركات فحده 500,000 ، وهو مبلغ ليس بالكبير على المقيمين الذين أثروا في بلادنا أكثر من أبنائها ، أو الذين أخذوا يتوافدون زرافاتٍ ووحداناً منذ أن أنشئت هذه الهيئة (هل تتصورون أن مهندسة ديكور عربية صغيرة السن ، جاءت منذ عامين فقط ، صار دخلها السنوي حسب إحدى العاملات لديها من بنات جنسها يفوق الخمسة ملايين ريال ؟ وقد أحضرت أشقاءها ليعملوا معها ، عدا بعض العمال من بني جلدتها !) ، وأما المشاريع الصناعية فحدها 1،000000 وكل هذه مبالغ ليست كبيرة وبإمكان واحد أو أكثر من العمالة توفيرها بسهولة ، بل إن هناك وسيلة تساعدهم ليس على توفير مليون بل ربما 25،000000 المخصص للمشاريع الزراعية وذلك أنه حسب أحد الأسئلة: هل يمكن استخدام الأموال المطلوبة بعد الانتهاء من عملية التسجيل ؟ فتأتي الإجابة صاعقة أن : (نعم ، يمكن استخدام المال بعد انتهاء التسجيل ولا يوجد ضوابط على السحوبات) ! وهذا يفتح مجالا ً كبيراً للتحايل على النظام ، فمن ذا الذي يضمن أن المستثمر يملك المبلغ الذي أودعه ، ولم يقم باستدانته أو الحصول عليه فقط من أجل التسجيل ثم يسحبه ، لأن كل ما يريده هو الاستثمار بأي وسيلة - ومن استطاع الحيلة فعليه الاحتيال - وما دام النظام يحميه فما الذي يمنعه من الاستفادة من ذلك ؟ ولأن الشيء بالشيء يذكر أعرف أن هذا الأسلوب يقوم به بعض العرب والأجانب للتحايل على السفارات الأجنبية التي تطالبهم بحساب بنكي ، فيفتحون حساباً في أحد البنوك ثم يقومون بسحب الأموال بعد حصولهم على إقرار من البنك بما أودعوه ! وتصر الهيئة على صعقنا بالأسئلة وأجوبتها التي تؤكد أنّ الاستثمار وُجد من أجل مستثمري المخابز والدكاكين ، وذلك مثل : " كيف يمكن توظيف العمال والمهنيين في المملكة ؟ هناك عدة وسائل يمكن استخدامها لتوظيف العاملين ومن بينها الإعلان عن الوظائف في الصحافة المحلية ومواقع الانترنت المخصصة للتوظيف التي بدأت في الانتشار مؤخراً " ! وسبب عجبنا أنه لا ذكرَ أبدا للعمالة السعودية ، أولئك الذين باتوا ورقة تتقاذفها رياح مؤسسات حكومية عاجزة وفاشلة في السيطرة على البطالة ، ورجال أعمال أنانيون لا يبالون إلا بمصالحهم ، إضافة إلى هيئة الاستثمار ومستثمري الغفلة الأجانب . ولا تنتهي دهشتنا عند ذلك ، إذ يقتحمنا سؤال آخر : " هل يوجد حدّ أدنى للأجور ؟ " ولأن الهيئة أعلنت منذ البدء عن وجهها الودود للمستثمرين فلن تخلّ بوعدها لهم ، خوفاً من أن يرحلوا فلا نجد خبزاً لطعامنا ، ولا خياطاً يخيط ملابسنا ، ولا مطعماً يبيع فولاً وطعمية ! ، لذا تسارع الهيئة إلى الإجابة كيلا تخدش إحساسهم: " في الوقت الحالي لا يوجد قانون متعلق بهذا الموضوع " ، إنّ عدم تحديد حدّ أدنى للأجور سيجعل المستثمر الأجنبي يُغرق بلادنا بالعمالة الرخيصة التي ستعوض ما ينقصها من أموال بالتكسب من الجريمة بكل أشكالها ، تلك التي باتت عنواناً صارخاً على العمالة الرخيصة غير المدربة . وتأكيداً للودّ فإنه :" يمكن للمستثمرين في المملكة أيضاً أن يستفيدوا من كلا نظاميْ التمويل بالدين ، والتمويل بإصدار الأسهم من القطاع المالي السعودي ، والتمويل متاح لأصحاب الأعمال والكيانات من السعوديين وغير السعوديين" ! لله درهم ! ففضلا عن الوجه الودود فالمملكة هي المكان ( الواعد للمستثمرين الطموحين ) ؟! وبما أن الطموح حق مشروع لكل إنسان فلا فرق بين من يستثمر في الصناعات البتروكيماوية ، ومن يستثمر في الخبز والفول ، مادام مناخ الاستثمار لا يفرق بين هذا وذاك ! إن كل ما ذكرته أعلاه لا يتعلق بالاستثمارات التي تتناغم وأهدافنا الكبرى ، بل بفرص الاستثمار البسيطة التي تغرق بلادنا بالعمالة الرخيصة ، وتربح أموالاً مواطنونا أحق بها ! وفي هذا المناخ الاستثماري العجيب يحق لكل المخلصين أن يشمتوا بالمتسترين الذين آثروا مصالحهم فتستروا على العمالة وتاجروا بها ، إذ شهدوا اليوم الذي تحرر فيه بعض العمال من قبضتهم ، وصاروا رجال أعمال ومستثمرين . أخيرا كم كان أجدادنا صادقين ودقيقين في تعبيرهم عندما ذكروا النخلة العوجاء التي يسقط ثمرها في حوض غيرها ، ولعل السؤال الذي يفغر فاه هنا هو : إلى متى يتمتع الأجانب بخيراتنا وبعض أبنائنا لا يجدون حتى الفتات ؟ سؤال يجعلك تقف على حافة البكاء .