"كيف نتعامل مع التراث يا أستاذ؟... لقد أثار فيَّ ذلك السؤال نوعاً من الدهشة أقرب إلى ذلك النوع الذي يقول عنه الفلاسفة إنه أصل التفلسف والدافع إليه. لقد اندفعت بحماس وجدية وبصبر وأناة إلى الدراسة والبحث في التراث والفكر المعاصر معاً عسى أن أتمكن من المساهمة في تقديم جوابٍ عن ذلك السؤال الذي أحسست منذ سماعه أنه سؤال جيل بأكمله. سؤال عصرنا الثقافي الراهن". بهذا النص يقدِّم المفكر الراحل محمد عابد الجابري تجربته الفكرية والفلسفية التي امتدت لأكثر من أربعة عقود، وأنتجت واحداً من أهم مشاريع الفكر العربي الحديث. تجربة ابتدأت بسؤال لا نعرف قائله إلا أننا مدينون لهذا السائل المجهول بشكرٍ لا ينقطع حيث استطاع أن يستفز فيَّ الراحل الكبير شغفاً لازمه بقية عمره.لا نملك إحصاءً لعدد المرات التي طُرح فيها هذا السؤال في قاعات الدرس وعلى منابر الندوات وبين طيات الكتب لكن المؤكد أن هذا السؤال ظل يبحث طويلاً عن مجتهدٍ يتلقفه ويوفيه حقه من العمل الجاد الدؤوب. وكان الراحل الكبير أحد أولئك النفر الذين َسعد بهم السؤال فأحكم يده عليهم حتى بات هاجسهم الأول وشغفهم الدائم. ظل هذا السؤال ومعاناة البحث عن إجابته مصدر إلهام مستمرا للراحل على امتداد مشروعه الفكري، جولة سريعة في كتبه تكشف عن ذلك "كيف نستعيد حضارتنا؟ كيف نحيي تراثنا؟... كيف نعيش عصرنا؟ كيف نتعامل مع تراثنا؟ ". "إن الماضي كالمستقبل لا يُكتشف ولا يُبنى أو يُعاد بناؤه إلا على أساس الحاضر وانطلاقاً منه . وحاضرنا العلمي هو العلم الحديث . فلنجعل من دراسة هذا العلم -موضوعاً ومنهجاً، روحاً ومناخاً- وسيلةً لبناء حاضرنا وبعث ماضينا والانطلاق نحو مستقبلنا...". "أردنا أن نجعل القارئ الذي اصطحبناه طوال العقود الثلاثة الماضية من خلال إنتاجنا الفكري يشعر بما نشعر به اليوم من أنه رغم كل المجهود الذي بذله جيلنا والجيل السابق فنحن ما نزال في بداية الطريق. إن السؤال/الهم الذي أشرنا إليه سؤال "كيف نتعامل مع التراث؟" لا يمكن تقديمه كتابةً ومرةً واحدةً. إنه من تلك الأسئلة التي تحث على العمل لتجديد طرح السؤال كلما حصل تقدم على الجواب. إنه سؤال الحداثة، سؤال يندرج تحت إشكالية "الأصالة والمعاصرة" التي تسكن الفكر العربي منذ قرنٍ من الزمان ولم يتمكن بعد من تجاوزها". "هل يمكن فصل الدعوة المحمدية عن السياسة والتاريخ؟ وهل يمكن الفصل في القرآن بين الدين والدنيا؟ ثم هل يمكن إصلاح حاضرنا من دون إصلاح فهمنا لماضينا". مسلَّمةٌ أولى اعتمد عليها الراحل في مساهمته في الإجابة عن السؤال، تقول المسلَّمة "لا نستطيع فهم الماضي إلا إذا استطعنا فهم الحاضر"، لذلك شرع في قراءة الحاضر والبحث في مفرداته عن أساسٍ ينطلق منه، إلا أن هذا البحث ما لبث أن اصطدم بعائقٍ آخر عبَّر عنه الراحل في أكثر من عمل من أعماله حيث يقول "نحن العرب في العصر الحاضر سجناء رؤيتين: الرؤية الأوربية التي فتحنا عليها أعيننا منذ بدء يقظتنا الحديثة، وهي تكيف بل تهيمن على جانب المعاصرة في شخصيتنا العلمية والحضارية. والرؤية الغزالية الشهرزورية العثمانية التي تشوش جانب الأصالة في تفكيرنا، وتقف حاجزاً بيننا وبين ربط ماضينا بحاضرنا". ويقول " إن الساحة الثقافية العربية الراهنة التي يتكون فيها العقل العربي المعاصر ساحة غريبة حقاً. إن القضايا الفكرية .. التي تطرح فيها للاستهلاك والنقاش قضايا غير معاصرةٍ لنا: إنها إما قضايا فكر الماضي تُجتر اجتراراً من طرف قسمٍ كبيرٍ من المتعلمين والفقهاء والعلماء والأدباء ... وإما قضايا فكر الغرب تُجتر الأخرى اجتراراً بعد أن قُطعت من أصولها وأُخرجت من ديارها ..". وحتى في محاولته لتذليل هذا العائق نجده يلوذ بالسؤال "لماذا لا نملأ ساحتنا الثقافية بقضايا لها علاقة مباشرة باهتمامات شعوبنا: اهتمامات النخبة والشباب والجماهير: قضايا اللغة وتجديدها، وقضايا الشريعة وشروط التجديد فيها وإمكانية تطبيقها وتطويرها، والعقيدة وأنواع الأغلال الملصقة بها الفكرية والسياسية، أضف إلى ذلك قضايا التاريخ والأدب والفلسفة التي يزخر بها تراثنا؟". رحل الجابري إلا إن قصة البحث عن الإجابة لم تنته. والعمل الشاق الذي بذله في مساهمته الجادة لم يكف. إذ مازالت هناك جوانب من السؤال تنتظر من يكشف عنها ويساهم في إثرائها. وكأني بالسؤال الآن قد عاود الارتحال باحثاً عن شغوف آخر يوليه رعايته واهتمامه ويجتهد في أن يتقدَّم به خطوةً أخرى. : التراث والحداثة : 9. : نحن والتراث: 12 . : مدخل إلى فلسفة العلوم : 234 . : التراث والحداثة : 10 . : مدخل إلى القرآن الكريم : 16 . : مدخل إلى فلسفة العلوم : 234 . : بنية العقل العربي : 572 . : بنية العقل العربي : 572 .