ظل الخندق الذي حفره إبراهيم باشا أمام أسوار مدينة الرس قبل ما يقارب من مائتي عام، شاهد عيان على عدم مقدرة الباشا على اقتحام المدينة التي بدأ حصاره لها في الخامس والعشرين من شهر شعبان عام 1232ه، واستمر حتى الثاني عشر من شهر ذي الحجة من السنة ذاتها بعد أن أعيته الحيلة، وعجز عن دخول المدينة، فطلب الصلح من أهلها ورضخ لشروطهم وقد خسر من المؤن والجند والسلاح ما لم يحسب له حساب، وذلك بعد المحاولات الثلاث الكبرى للاقتحام والتي كان من بينها حفر نفقين أمام أسوار المدينة أحدهما جنوبها، والثاني في الجهة الشرقية منها، والذي ما يزال ماثلاً وشاهداً يحكي لنا أحداث بداية حملة إبراهيم باشا على المدن النجدية التي بدأها بمدينة الرس. المحاولة الأولى وكانت المحاولة الأولى مع أول يوم من وصول الباشا وقد دعته غطرسة لأن يهاجم المدينة مباشرة دون أن يقيم معسكراً، كما ذكر الباحث "محمد المزروع"، وقد أمر الباشا المدفعية أن تضرب سور المدينة من مكان قريب ولكنه ورجاله فوجئوا بنيران أهل المدينة المحاصرة التي قتلت منهم عدد كبير، وذلك حينما أحدثت المدفعية خرقاً في السور، فتقدم المشاة لعبور الخندق بعد أن صفوا حزم من جذوع النخل وضعوا عليها أكياس القش وتقدم ستمائة من المشاة لتجاوز الخندق ولكنهم لم يستطيعوا لأن الجذوع لم تكن كافية فاستغلها المحاصَرون وفتحوا النار على الغزاة في أحداثٍ وصفها الضابط البريطاني الذي وصل إلى المنطقة لمقابلة الباشا بعد انتهاء حملته - ومر على معظم المدن التي حاصرها الباشا - واصفاً غضب إبراهيم باشا من جنوده بعد فشلهم في الاقتحام بقوله: "وصار الباشا بمعاونة مماليكه يرمي بالرصاص كل جندي يحاول الانسحاب، وكانت نتيجة ذلك أن عانى المشاة التعساء من خسائر فادحة، وقد أصدر أمره بحرمان أولئك الذين قتلوا من حقهم في الدفن بسبب تأجج غضبه من الهزيمة"، وبعد أن ذكر "سادلير" مدة الحصار التي استمرت أكثر من ثلاثة أشهر ونصفالشهر قال في وصف ما أبداه أهالي الرس في رد الغزاة أنهم أبدوا "فناً وعلماً أكثر مما أبداه القائد التركي"، ثم ذكر خسائر جيش الغزاة من السلاح والمؤن والرجال، كما وصف "ابن دعيج" هذه الأحداث ومقاومة أهالي الرس بأرجوزته الشهيرة التي تربو على السبعمائة بيت. المحاولة الثانية وقد تلخصت هذه المحاولة بأن أمر إبراهيم الباشا جنوده بالقيام بعملية فدائية لتسلق السور الذي يبلغ ارتفاعه حوالي خمس أمتار، وفعلاً تم لأكثر من مائة من الجنود ذلك، ثم نزلوا على منزل رشيد الرشيد – وهو الآن موقع المدرسة المحمدية كما يذكر الباحث "صالح المزروع"، ولكن الشيخ والقاضي المعروف "قرناس بن عبدالرحمن" تصدى لهم مع بعض رجاله فقتلهم هو ومن معه وسالت دمائهم من مثعب الرشيد، فسمي مثعب الدم إلى أن أقيمت في مكانه المدرسة المحمدية. المحاولة الثالثة وحفر النفق حين يأس الباشا من اقتحام المدينة، وقال عبارته الشهيرة: "يا رس يا عاصي أقضيت ملحي ورصاصي" لجأ إلى حيلة أخيرة حفر خلالها نفقين أحدها جنوبي المدينة، والثاني من الناحية الشرقية، وبدأ جنوده يملأون النفق بالبارود والملح ولكن قدر الله سبحانه أن يبطل هذه الخطة التي من شأنها نسف المدينة بأكملها، وذلك حين سمعت "مضاوي الجلالي" زوجة الشيخ قرناس وهي تصلي الثلث الأخير من الليل أصوات الفؤوس والحفر تحت الأسوار فأخبرت زوجها الذي كان يقود معركة الدفاع عن المدينة بعد إصابة أميرها "منصور العساف"، وحينها لجأ قرناس ورجاله لحيلة غاية في الدهاء وذلك حينما جاءوا بعسيب نخل يابس وربطوه بذيل قطة وأشعلوا فيه فتيلة ووجهوا القطة إلى نقب حفروه إلى أن اتصل بنفق الغزاة فدخلته القطة هاربة من نار الفتيل وثار الخندق بما فيه من البارود والأسلحة بجنود الباشا فكانت الضربة القافية له ليوقع بعدها على الصلح. ماذا قال المؤرخون؟ يصف "ابن بشر" الأحداث التي صاحبت حفر النفق بعد أن بيّن قوة تسلح جيش الباشا، قائلاً:"وتابعوا الحرب عليهم في الليل والنهار وكل يوم يسوق الباشا على سورها صناديد الروم بعدما يجعل السور بالقبوس فوق الأرض مهدوماً، فأنزل الله السكينة على أهل البلد والمرابطة، وقاتلوا قتال من حمي الأهل والعيال وصبروا صبراً ليس له مثال، فكلما هدما القبوس السور بالنهار بنوه بالليل، وكلما حفر الروم حفراً للبارود حفر أهل الرس تجاهه حتى يبطلوه، وبعض الأحيان يثور عليهم وهم لا يعلمون". أما "الرافعي" المفاخر بحملة الباشا فيقول واصفاً حصار الباشا للمدينة: "وجلب المدافع لرميها، وأقام الاستحكامات حولها، لكنها كانت على قوة ومنعة، فاستمر الحصار ثلاثة أشهر وسبعة عشر يوماً دون أن ينال منها طائلاً"، ثم وصف دفاع أهلها عنها بدفاع الأبطال، وقال:"بالرغم من قتالهم جيشاً مسلحاً بالبنادق الحديثة، ولم يكن عندهم إلا البنادق من الطراز العتيق الذي يطلق بالفتيلة، ومع ذلك صدوا هجمات الجيش "الغازي" ثلاث مرات، وكبدوه خسائر جسيمة وبلغ عدد قتلاه مدة الحصار 2400 جندي على حين لم يقتل "المحاصرين" سوى 160 مقاتلاً"، وهذا يدلل على فداحة الخسائر التي أصابت الجيش "الغازي" في حصار الرس، ثم وصف حال جيش الباشا وعدم استطاعته إكمال الحصار فقال: "أضف إلى ذلك ما خامر نفوس الجنود من الملل واليأس، وما قاسوه من الشدائد والأهوال.."، فاضطر إبراهيم باشا أن يرفع الحصار. أما "فيلكس مانجان" وهو الفرنسي المرافق لحملة نابليون على مصر والذي ضل في مصر بعد الجلاء الفرنسي، وأصبح صديقاً حميماً لمحمد علي باشا، فقد وقف على الأحداث ووصفها وصفاً دقيقاً بحكم صلته بمحمد علي ومعاصرته للحملة، حيث قال أثناء المحاولات الثلاث لاقتحام الرس "إلا أن المحاصرين استرشدوا بدوي المدافع.. لمعرفة موقع القوات المعادية التي بذلت جهداً بلا طائل كانت النساء وراء الأسوار يشعلن سعف النخيل الجاف المطلي بالصمغ لإضاءة الميدان للمدافعين.. لقد تصدى المحاصرون لهجوم الأتراك في كل المواقع، فاضطر هؤلاء إلى التراجع: ولم نكن نرى إلا القتلى، والجرحى". ثم وبعد أن ذكر المدد الكبير الذي وصل إلى الباشا بقيادة "البنباشي ياور علي" والهجوم الذي أعقب هذا المدد قال "مانجان": "ولم يسفر الهجوم عن شيء، وأجبرت بسالة المدافعين المحصورين الأتراك على التراجع، ولم تكن نتيجة هذا الهجوم أقل سوءاً من الهجوم الأول وأصيب ياور علي الذي كان في الطليعة مع بعض من أكثر الجنود شجاعة بجرح بالغ"، ثم وصف مانجان المحاولة الثالثة للباشا لتدمير السور، وقال - بعد أن وصف سلاح المحصورين واقتصاره على الرماح وبنادق "الفتيلة" -: "لقد حاولوا القيام بهجوم ثالث ولم تكن نتائجه مختلفة في فشله وخيبته عن الهجومين الأولين". ورغم انقطاع الإمدادات عن المحاصرين إلا أنهم استطاعوا أن يصلوا إلى مدافع الخصوم وضربها بالبنادق لكنهم لم يعرفوا أنهم لو أغلقوا فوهاتها بالمسامير لأبطلوا مفعولها، وهذا ما أشار إليه مانجان وغيره، ثم أنهى مانجان حديثه عن المعركة بوصفه لشروط الصلح بقوله: "لم يكن فيه كثير مما يشرف الجيش التركي، فبعد ثلاثة أشهر وعشر يوماً من الحصار، أقر إبراهيم باشا بالخطر الذي يحيق به، ووافق على شروط صعبة دفعه للموافقة عليها وضع جنوده، ومقاومة المحاصرين". أما المؤرخ الفرنسي "إدوارد جوان" المعجب بمحمد علي باشا وابنه وبالهجوم الفرنسي على مصر والذي نقل عن مانجان معظم أحداث هذه الحملة، فيصف كيف استطاع الباشا قتل وجرح ثلاثمائة رجل ممن هاجموا القوات الغازية لمناصرة المدينة المحاصرة؟ وكيف أن الباشا رفع جماجم القتلى ورؤوسهم على سور مدينة الرس ليخيف أهاليها الذين وصف إدوارد جوان ردة فعلهم بقوله: "وكان يرمي إلى التأثير في نفوس المحصورين وإلقاء الفزع في روعهم، إلا أنه لم يظفر بمراده لأنه بث بفعله في نفوسهم النشاط والهمة وحفزها للأخذ بالثأر فاندفعوا خارج الأسوار واشتبكوا برجاله في معركة سالت الدماء فيها غدراناً". وكان ذلك قبل أن يعيد إبراهيم باشا تهديده لرئيس الحامية السعودية بالرس "حسن بن مزروع" الذي لم يأبه بتهديدات الباشا ورد عليه ساخراً بعبارته الشهيرة التي اهتم بها الفرنسيون: "تعال خذها". وإن كان البعض رأي كما رأى "بريدجز" أن حصار الرس كان فرصة لحصر الباشا بين الجيش السعودي وأسوار المدينة المحاصرة للإطباق عليه من جهتين، إلا أن هذا لم يتم وقد بالغ "حسن الرِّيكي" في عدد المدد الذي وصل لإبراهيم باشا أثناء حصاره الرس حين قدرهم بعشرين ألفاً في حين قال "د.عبدالله بن عثيمين في كتابه: "تاريخ المملكة العربية السعودية" الجزء الأول: "إن أهالي الرس صمدوا أمام قوات إبراهيم، بكل ما تملك من قوة واستعداد، أكثر من ثلاثة شهور ونصف الشهر، بل إنهم ألحقوا –خلال الحصار– بتلك القوات خسائر تفوق كثيراً ما ألحقته بهم"، أما "كورانسيه" الذي لم يتحدث عن حملة الباشا فلم يذكر الرس ضمن مدن القصيم التي عدها لأنه نقل قائمة الأقاليم والمدن التي تتألف منها نجد عن "سيلفيستر دوساسي" شيخ المستشرقين الفرنسيين الذي توفي بعد هذه الأحداث بسنوات ليست بالطويلة في حين لم تصلنا كتابات "أليكسي فالسيف" كما اقتصر "بور كهارات" على ذكر نسب أهالي المدينة عام 1817م غير أن بعض هذه التفصيلات ذكرها محقق كتاب: "رحيلة عبر الجزيرة العربية" للضابط البريطاني سادلير الأستاذ "سعود العجمي" من خلال ما ألحقه بالكتاب في طبعته الثانية عام 2005م من الرسائل التي تمت بين إبراهيم باشا ووالده والموجودة في دار الوثائق القومية في القاهرة. كيف حفر النفق؟ لا شك أن الباشا كان يأمر رجاله بالحفر أواخر الليل حتى لا يعلم به أهالي المدينة، وقد أجاد مهندسو الغزاة حفره وساعدهم في ذلك طبيعة أرض المنطقة ووفرت أدوات ومعدات الحفر، إلى جانب أن جيش الباشا كان يضم عدداً ليس بالقليل من المهندسين الفرنسيين الذين بقوا في مصر بعد حملة نابليون بجانب عدد من المهندسين الإنجليز والطليان. ويبلغ قطر فوهة النفق متراً أو يزيد قليلاً وطريقة حفره تنم عن خطة الغزاة لهدم السور، حيث لم يحفر بالعمق بل يتجه إلى أسفل السور بتجويف واسع كان الغزاة قد ملؤه بالبارود لهدم السور لكن الحيلة انطلت عليهم وسبقهم أهالي البلدة إلى تفجيره بمن فيه من الجنود. ومن الطريف في الأمر أن أهالي الرس ما يزالون حتى الآن يستخدمون القذائف والقبوس التي رماهم بها الباشا كأدوات لحمس القهوة ودق الحبوب!!. نفق الباشا وهيئة السياحة! بقي أن نقول إن نفق إبراهيم باشا ما يزال يحكي صفحة من كفاح ومقاومة أهالي هذه البلاد للغزاة، ورغم مرور مائة وتسع وتسعين سنة على هذه الأحداث، إلا أن هذه النفق ما يزال مجهولاً لدى الكثير، بل قد طالته أياد العبث حتى أصبح والمنطقة المجاورة مرتعاً للحيوانات الأليفة رغم أن هذه المنطقة تحوي قصر الشيخ قرناس الذي تم فيه الاتفاق على بنود الصلح، وكذلك جامع المدينة الذي خطب فيه الشيخ قرناس بعد الصلح وتعجب منه إبراهيم باشا، وقال له: أنت "ذيب وخطيب" كل هذه المنطقة تبدو كأنما لم تحك لصفحات التاريخ أحداث معارك ضارية سطرها السعوديون مع الغزاة، مما يدعو أهاليها إلى مطالبة الهيئة العليا للسياحة والآثار بإرسال مندوبيها لدراسة ما تحتاجه هذه المواقع والآثار الثمينة لترميمها وحفظها من يد الإهمال. سور المدينة الملاصق للنفق