بداية لا بد ان نذكر ما سبق أن اشرنا إليه من خلال استطلاع مماثل من أن تخطيط المدن والقرى -وإن لم يكن هناك تخطيط بالمفهوم العصري وإنما احتياطات احترازية تحتمها الظروف - تجعل دائماً من المسجد الجامع (محورا) تقوم حوله مباني البلدة، مع ضرورة مراعاة الحس الأمني أولاً وقبل كل شئ على طريقة ما يعرف ب (الحي المغلق)، وتعني الاعتماد على مخرج ومدخل واحد للقرية أو المدينة حتى يعرف دخول وخروج الغرباء، وساهمت هذه الطريقة في توفير قدر من الأمن المعتمد على أهالي البلدة أنفسهم؛ لصد غارات اللصوص والغزاة ودخول الغرباء في وقت انعدم فيه الأمن وساد الانفلات. سور لحماية البلدة وحتى تؤدي هذه الطريقة دورها كاملاً كان لا بد من إقامة سور حامٍ يحيط بالبلدة، ووجود مرقاب واحد أو أكثر تحدد أماكنها وفق معايير أمنية وتخطيطية دقيقة معروفة لديهم، يبدأ غالباً في السور الذي يحصّن البلدة ويطوقها من جميع جهاتها، ويتعاون جميع الأهالي رجال ونساء وأطفال في تشييد هذا السور الذي قد يستغرق إنجازه سنوات تصل إلى ثلاث أو أربع بحسب مساحة البلدة، وعدد السكان المشاركين بالبناء، ويشيّد عادة من الطين والحجر أو الطين واللبن بسماكة تصل أحياناً إلى المتر، وارتفاع يتراوح بين أربعة إلى سبعة أمتار، وقد ينقص أو يزيد يجعل له مداخل رئيسة في الغالب بوابة واحدة على السور، ويجعل لها باباً من خشب الأشجار القوية يتم الدخول والخروج منها للسكان ومواشيهم، وتُغلق في حالات الخوف، وعند محاولة اقتحام البلدة من الغزاة فإن جهود المدافعين تتحد حول الدفاع عن البوابة التي يعني الوصول إليها وفتحها سقوط البلدة بما تعنية من نهب وسلب واعتداء وترويع. ياليت كفي تحت خده عن الطين ... والكف الآخر فوق موضي جبينه ويحفظ تاريخ المنطقة العديد من الروايات التي تؤكد صمود قرى وبلدات وصدها لجموع زاحفة من الغزاة المجهزين بالعتاد والعدة، على أيدي عدد قليل من المدافعين بعون من الله، وتوافر مثل هذه الأسوار التي كلما طال ارتفاعها وقلّت مداخلها أدت غرضها بشكل أفضل، ولا يبقى في هذه الحالة أمام الغزاة إلاّ محاصرتها لمنع الدخول والخروج منها ومنع مواشيهم من الخروج إلى الفلاة، واستنفاذ مخزون الطعام والشراب لإنهاكهم والتضييق عليهم ودفعهم للاستسلام. وإن كانت بعض البلدات تحسب حساباً لمثل هذه الظروف؛ فتضع ضمن استراتيجياتها إيجاد مخازن للطعام على قدر استطاعتهم مع أن الطعام قليل أصلاً ولا يتوفر في كل وقت، أما تأمين مياه الشرب فإن أغلب القرى والهجر والمدن المسورة عادة ما يوجد بها بئر أو أكثر وسط البلدة أو داخل سور المسجد الجامع. مراقيب داخلية في زوايا سور البلدة تسمى «مقاصير» شاهد عيان أو ليت يومي قبل يومه بيومين ... والاّ المرض من بيننا قاسمينه وذكر ل»الرياض» أحد كبار السن أنهم حوصروا داخل بلدتهم في إحدى السنوات، وكانت البئر الوحيدة التي تمد بلدتهم بالماء تقع خارج السور التي احتلها اللصوص وتمركزوا عندها، فلجأ حينها أهل البلدة إلى حفر بئر بديلة تعاونوا عليها وانهوا حفرها وطيها في أربعة أيام تواصل العمل بينهم بالتناوب ليل نهار حتى ظهر الماء. ويحصل مثلاً أن يطول الحصار فتتحول المواجهة إلى حرب استنزاف تعتمد على التراشق وعمليات القنص بين الطرفين. اختيار الموقع وبقي المرقب أو المرقاب عنصرا ضروريا ضمن أولويات تخطيط هذه البلدات -كما ذكر-، ويتم اختيار موقعها وفق حسابات مدروسة بشكل جيد عادة في المكان الأعلى تلة مثلاً، أو قمة جبل قريب من البلدة يكشف المساحات الواسعة المحيطة بالبلدة من جهاتها الأربع، ويشيّد في الغالب على شكل بناء دائري أو اسطواني يضيق كلما ارتفع، ويبنى من الطين والحجر المقاوم لاختراق الرصاص، وله باب ودرج داخلي يقود إلى غرفة صغيرة في الأعلى لها فتحات صغيرة من كل الجهات تستخدم للرؤية والرماية، وهذه الفتحات مصممة بطريقة هندسية معينة تمكّن «الرقيبة» من رؤية العدو بشكل واضح، والقدرة على اقتناصه في الوقت الذي لا يستطيع هو رؤيتة أو إصابته مهما كانت مهارته في الرماية، كما قد يكون هناك مراقيب داخلية في زوايا سور البلدة أو داخل أحد المباني، حيث يلجأ بعض المستهدفين إلى إقامته ضمن بناء منزله تسمى «مقاصير» تأخذ التصميم نفسه، ويصعد إليها ويستخدمها الحراس ويستعين بها المدافعون في حالة أي هجوم، وتمكنهم من المراقبة والرماية ومنع محاولات نط السور من العدو للوصول للبوابة الرئيسة وفتحها للغزاة. ومثل هذه المراقيب ليست حكراً على نجد كما يُعتقد، بل هي موجودة في كل أنحاء الجزيرة وفي البلدان العربية مثل اليمن والسودان والعراق وبلاد الشام، وبعض بلدان المغرب العربي، كما عُرفت في أوروبا على شكل قلاع وحصون ضخمة على مرّ العصور. واجهة مرقاب ظل صامداً في وجه الأعداء واليوم مزاراً أمام الجميع عيون «الرقيبة» يحيط به «سور القرية» لمنع الغزاة من الدخول وإعلان الهزيمة عملية المراقبة تسند عادة إلى شخص يسمى «الرقيبة»، وهذا الشخص لا بد أن يتوافر لديه قدرات بدنية وذهنية تجعل منه شخصا قادرا على أداء مهامه بكفاءة عالية، أهمها صفاء وقوة البصر، والنباهة والشجاعة وحسن التصرف في مختلف الظروف، وتظهر الحاجة إليه في أوقات الخوف والأزمات عندما يلازم المرقب خصوصاً الساعات الأخيرة من النهار خوفاً من مداهمة البلدة ليلاً، وهنا يبرز دور قوة النظر بحيث يصعد إلى الأعلى يومياً، ثم يمسح بنظره المجرد فضاءات البلدة إلى حدود منطقة الخطر، وهي طريقة يؤخذ فيها حساب الزمن والمسافة، بمعنى أن العدو خارج هذه المسافة لا تسعفه ساعات الليل المتبقية من الوصول إلى البلدة، إلاّ صباح اليوم الثاني، وهم يعرفون المسافة التي يتمكّن بها من الوصول إليهم، وبالتالي تستطيع البلدة أن تنام بأمان في حال لم ير «الرقيبة» أحداً داخل هذه المسافة المحسوبة، وفي الوقت نفسه تبدأ البلدة استعداداتها للدفاع والمواجهة فيما لو دخل المنطقة المحرمة أي غريب ترصده عيون «الرقيبة». لكن لو كان هناك ما يعيق نظر «الرقيبة»؛ بسبب التضاريس المحيطة بالبلدة وتفاجأ بوجود أو اقتراب العدو؛ فإن كان المرقب قريباً من البلدة، وفي مجال سماع الصوت صاح لهم بأعلى صوته على طريقة ما يعرف لدينا ب»صافرات الإنذار»، وإن كان الموقع بعيداً، أو كان في وقت متأخر من الليل أطلق من بندقيته عدة أعيرة نارية في الفضاء لإيقاظ أهل البلدة حتى يستعدوا ويأخذوا مواقعهم المناسبة حول السور للدفاع عن أنفسهم. وطاك الجيش! عاشقون ينثرون فيه مشاعرهم وأجمل قصائدهم.. ويبكون «الحبيب» «الفراق» ..و«الندم»! و»الرقيبة» في الصحراء لا يختلف كثيراً عنه في المدن، إلاّ أنه يستخدم رأس تلة رملية أو قمة جبل؛ للتأكد من خلو منطقته من الأعداء، أو رصد تحركاتهم؛ لينذر قومه، كما يصف ذلك شاعر العوارض من قصيدة نكتفي منها ببيتين من باب الاستشهاد بالمرقب والرقيبة عندما قال: يوم نط الرقيبة راس مشذوبة قال زلوا وطاك الجيش زرفالي قال انا شفت شوف (ن) لا بليتوا به شوف ريبه ومنه القلب يهتالي ولا يختلف عنه كثيراً «السبر» أو «السبور» ويسمون أيضاً (العيون)، وهي عناصر استطلاع تؤدي إلى جانب مهام الرقيبة دور استخبراتي مهم، وتحديداً عندما يقدمون للعدو على هيئة مسافرين أو دراويش، ويمكثون بينهم للكشف عن قوتهم واستعدادهم وخططهم ثم يعودون بها إلى قومهم. ساحة الصفاة في منطقة قصر الحكم وجامع الإمام تركي غرباً ويربطها جسر المالية الشهير رجم طويل و(المرقاب) الذي تحول لدينا إلى مجسم تراثي نزين به ساحاتنا وميادين مدننا، ويذكرنا بمرارة الماضي فهو مثلما كان يلجأ له المذعورون ساعات الهلع؛ لرصد طلائع الأعداء هو المكان نفسه الذي يقصده العشاق والمتيمون أصحاب النزعات الوجدانية التي تقودهم دوماً إلى الأماكن العالية، حيث يجدون فيه ملاذاً ومتنفساً عندما تجول عيونهم فضاءاته الشاسعة تستحضر الأماكن والدروب والذكريات الجميلة حتى نسجوا عندها وفي قممها أعذب وأصدق المشاعر؛ مبتدئين بذكر المرقب سواء قالوا عنه المرقب أو المرقاب أو الرجم أو باسمه المعروف، ومن أشهر هذه القصائد ما قاله الشاعر الأمير «محمد الأحمد السديري» -رحمه الله-: قلاع ضد الرصاص تستطلع منها «الرقيبة» تحركات اللصوص وقطّاع الطرق يقول من عدى على راس عالي رجم طويل يدهله كل قرناس في راس مرجوم عسير المنالى يشتاق له من دك بالقلب هوجاس قعدت في راسه وحيدٍ لحالى والقلب في لجات الافكار غطاس وقعدت اعد ايامها والليالى دنيا تقلب ما عرفنا لها قياس دنيا تفرق بين غالى وغالى لو شفت منها ربح يرجع للافلاس يا ما هفا به من رجال مدالى ما كنهم ركبوا على قب الافراس «يارجم» عديتك وللشاعر (جديع السودان) -رحمه الله- قصيدته المشهورة في زوجته وهي إحدى عيون شعر الرثاء التي جمعت الرثاء بالوفاء بالوجد ومنها: (يارجم) عديتك وعدابي البين القلب في راسك تبيح كنينه الله لا يسقي مفاليك عامين ذكرتني راع الطبوع الحسينه مرحوم ياللي جهزوا يوم الاثنين العصر من فوق النعش شايلينة حطوا على منبوز الارداف سافين رصوا عليه اللبن وملحدينة ياليت كفي تحت خده عن الطين والكف الآخر فوق موضي جبينه أو ليت يومي قبل يومه بيومين والا المرض من بيننا قاسمينه أبرق الأسياح ثم قول الشاعر «ساكر الخمشي» -رحمه الله- وهو يعتلي أبرق الأسياح: نطيت راس معمردٍ وقت الأدماس وعرفت رقي الرجم مابه لنا زود لازان شوف العين طالعت الأوناس لازم تشوف اللي ورا جرع أبا الدود القلب مشتان يبي ناس من ناس لوسيروبي من مشاري على سعود أطلال مرقاب كان يوماً مأوى للعاشقين