المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    فرصة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «آثارنا حضارة تدلّ علينا»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أرصدة مشبوهة !    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    «المرأة السعودية».. كفاءة في العمل ومناصب قيادية عليا    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    «إِلْهِي الكلب بعظمة»!    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    فعل لا رد فعل    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المرور»: الجوال يتصدّر مسببات الحوادث بالمدينة    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    رسالة إنسانية    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تاريخ سور جدة

منذ الأزل أحاط الإنسان الأول مساكنه بأسوار تحميه من الحيوانات المفترسة ومن هجمات الغرباء الطامعين في ممتلكاته.
والأسوار حول القرى والمدن قديمة قدم التاريخ، والحاجة إليها كانت دومًا ماسة، خاصة قبل اختراع المدافع والطائرات وغيرها من أدوات الحرب الحديثة.
ولقد قام الصينيون قديمًا بالبدء في تشييد السور العظيم الذي تم الانتهاء من بناء أول أجزائه أثناء عهد حكام «تريكو صبحيو - تشانعو» مما مكنهم من حماية مملكتهم من هجمات الشعوب الشمالية.
وحماية لأنفسهم ومساكنهم وممتلكاتهم قام سكان مدينة جدة منذ آلاف السنين ببناء أسوار حول هذه المدينة التاريخية وأحاطوا هذه الأسوار بخنادق كانوا يملؤنها بمياه البحر للزيادة في الأمان، كما كانوا يشيدون الأبراج على أطراف هذه الأسوار.
ولقد تم تجديد بناء سور جدة عدة مرات على مر العصور من قبل أجيال مختلفة من أهلها كان آخرها عام 915ه - 1909م.
وسنلقي نظرة سريعة ومختصرة على تاريخ «سور جدة» هذا السور الذي أحاط بالمدينة أوقاتًا ولم يكن له وجود أحيانًا أخرى، ثم أعيد بناؤه لحمايتها حتى استطاعت جدة في عام (1367ه - 1947م) أن تستغني عن سورها وتتمرد عليه وتتوسع شمالًا وفي اتجاهات أخرى عندما أراد الله سبحانه وتعالى أن يستتب الأمن في جزيرة العرب بعد تأسيس المملكة العربية السعودية هذا الكيان الكبير الذي أسسه وأمن طرقه جلالة المغفور له الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله- فاستغنت جدة عن سورها وأصبحت آمنة مطمئنة ولله الحمد.
وقبل أن نلقي الضوء على تاريخ سور مدينة جدة قد يكون من المناسب أن نبدأ بتعريف السور في اللغة.
يقول ابن منظور في لسان العرب:
السور: حائط المدينة، مذكر.
وينقل ابن منظور قول جرير عندما هجا ابن جرموز فقال:
لما أتى خبر الزبير تواضعت
سور المدينة والجبال الخشع
يقول ابن منظور: فإنه أنث السور لأنه بعض المدينة، فكأنه قال: تواضعت المدينة، والألف واللام في الخشع زائدة إذا كان خبرًا كقوله:
لقد نهيتك عن بنات الأوبر.
وإنما هو بنات أوبر لأن أوبر معرفة.
وجمع سور أسوار وسيران، وسرت الحائط سورًا، وتسورته إذا علوته، وتسور الحائط تسلقه (1).
ولقد ذكرت كتب التاريخ «سور جدة» بما في ذلك المصادر التاريخية القديمة والحديثة إضافة إلى ما كتبه بعض الرحالة العرب والمسلمون والغربيون وغيرهم عن هذا السور عندما شاهدوه خلال زيارتهم إلى جدة في فترات زمنية مختلفة.
سور جدة في المصادر التاريخية:
أولًا: أدبيات الرحالة وكتاباتهم:
لعل بعض أقدم المصادر التي تناولت تاريخ سور مدينة كان ما كتبه بعض أوائل الرحالة قدومًا إلى مدينة جدة. فعلى سبيل المثال نجد أن الرحالة العربي محمد بن أحمد المقدسي الذي زار جدة في القرن الرابع الهجري عندما كان في طريقه إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج يشير في كتابه (رحلة المقدسي) إلى تحصين جدة فيقول:جدة: «مدينة على البحر، منه اشتق اسمها، محصنة عامرة أهله، أهل تجارات ويسار، خزانة مكة ومطرح اليمن ومصر» (2).
وبعد المقدسي بحوالى مئة عام نجد أن الرحالة المسلم ناصر خسرو علوي الذي قدم لأداء فريضة الحج ومر بمدينة جدة (441ه) في القرن الخامس الهجري أوائل القرن العاشر الميلادي (1050م) ووصفها وذكر سورها فقال:
«جدة: وجدة مدينة كبيرة لها سور حصين تقع على شاطئ البحر، وبها خمسة آلاف رجل، وهي شمال البحر (الأحمر)، وفيها أسواق جميلة، وقبلة مسجدها الجامع ناحية المشرق، وليس بخارجها عمارات أبدًا، عدا المسجد المعروف بمسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ولها بوابتان إحداهما شرقيه تؤدي إلى مكة، والثانية غربية تؤدي إلى البحر»(3).
ويبدوا أن المدينة قد صغرت وانكمشت وتهدم سورها نتيجة ظروف طبيعية واقتصادية وغيرها خلال المائة عام التي تلت زيارة ناصر خسرو علوي لها. لذا فإن الرحالة العربي ابن جبير الذي زار جدة في القرن السادس الهجري عام (578ه) / (1082م) بعد حوالى مئة عام من زيارة ناصر خسرو لها قد وجدها بخلاف ما رآه ناصر خسرو فأعطى لنا وصفا للمدينة وسورها يختلف كثيرًا عما قاله خسرو حتى إن ابن جبير قال عن جدة: إنها «قرية» يقول ابن جبير -رحمه الله-:
«أما جُدة فهي قرية على ساحل البحر المذكور، أكثر بيوتها أخصاص، وفيها فنادق مبنية بالحجارة والطين وفي أعلاها بيوت من الأخصاص كالغرف، ولها سطوح يستراح فيها بالليل من أذى الحر. وبهذه القرية آثار قديمة تدل على أنها كانت مدينة قديمة، وأثر سورها المحدق بها باق إلى اليوم (4).
إذًا فابن جبير يذكر أنه رأى في القرن السادس الهجري أثر السور الذي كان مبنيًا وشاهده كل من المقدسي وناصر خسرو في القرنين الرابع الهجري والخامس الهجري عندما زارا جدة مما يؤكد رواية كل منهم.
وفي القرن السابع الهجري قدم الرحالة المسلم ابن المجاور إلى جدة ورسم لها أقدم خريطة معروفة وما زالت هذه الخريطة موجودة (يوجد ذكر لخرائط أقدم من خريطة ابن المجاور الا أنها فُقِدت ولم تكتشف إلى اليوم).
وتحدث ابن المجاور عن سور جدة القديم وقال: إن الصحابي الجليل سلمان الفارسي -رضي الله عنه- هو وأهله كانوا قد بنوا هذا السور حول جدة عندما سكنوا هذا الميناء البحري التاريخي الهام. ولكن ابن المجاور لم يذكر أنه شاهد سورًا حول جدة في وقت زيارته لها في القرن السابع الهجري مما يؤشر إلى أن وضع السور المتهدم لم يتغير منذ زمن ابن جبير في القرن السادس الهجري وحتى زمن زيارة ابن المجاور لجدة بعد ذلك بمائة عام تقريبًا.
والوضع نفسه ينطبق على ما قاله ابن بطوطه أشهر الرحالة الذي زار جدة عدة مرات احداها عام 727ه في القرن السابع الهجري ولم يأت بذكر لسور يحيط بالمدينة بالرغم من أنه قال: إنه أقام بجدة «نحو أربعين يومًا» (5). مما يشير إلى أن أهل جدة لم يعيدوا بناء سورها حتى زمن تلك الزيارة على أقل تقدير.
ويبدو أن مدينة جدة بقيت دون سور يحيط بها لفترة طويلة. فعندما جاء الإيطالي لودفيكو دى فاريتما بعد ابن بطوطة بأكثر من مائتي عام وزار جدة عام (1503م) الموافق (908ه) لم يكن هناك سور حول جدة.
وقد قال دي فاريتما عن هذه المدينة واصفًا إياها:
«لا يحيط بجدة سور، وإنما هي محاطة بمنازل في غاية الجمال، كالمعتاد في إيطاليا» (6).
ويكاد يكون لودفيكو دى فاريتما آخر من ذكر من الرحالة (حسب تاريخ الوصول إلى جدة) أنه لا يوجد حول المدينة سور. ويتطابق ذلك مع الزمن المعروف لبناء السور الأخير حول جدة، إذ تشير المصادر التاريخية إلى أن هذا السور تم بناؤه في عام (915ه) الموافق (1509م) (7) أي حوالى ستة سنين بعد تاريخ زيارة لودفيكو دى فاريتما. وسنفرد جزئًا كاملًا إن شاء الله من هذا المقال للحديث عن بناء سور جدة الذي شيده الأمير حسين الكردي بأمر من السلطان المملوكي قانصوة الغوري للدفاع عن جدة من الغزو البرتغالي الذي كان مرتقبًا في ذلك التاريخ.
ولأن الرحالة الدنماركي كارستن نيبور جاء إلى جدة عام 1762م أي بعد بناء السور بحوالى قرنين ونصف وقبل هدمه بحوالى قرنين فإنه شاهده وتحدث عنه بل قال إنه حدد موقعه.
يقول نيبور عن رسمه لخريطة جدة:
«رسمت خارطة هذه المدينة ومحيطها على اللوحة (IV) لكن لا بد من الإشارة إلى أني لم أقس إلا الجزء الواقع من جهة البحر، ولم يكن بإمكاني أن أجول في المدينة كلها كما ذكرت سابقًا. لكني حددت موقع جزء من السور، وعددت من بعيد خطى عربي رأيته يمشي قرب هذا السور»(8).
وعندما وصل أول اسباني يزور جدة وهو الرحالة دمنجو باديا الذي سمى نفسه (علي بك العباسي) عام 1806م إلى هذا الميناء البحري العريق في طريقه إلى مكة المكرمة لأداء مناسك الحج أقام في جدة فترة من الزمن وذكر أنه كان يقطن في هذه المدينة (مدة زيارته) حوالى خمسة آلاف نسمة. ووصف المدينة وأسواقها وتحدث عن أهلها ومساكنهم وطباعهم وغير ذلك متحدثًا عن المدينة داخل وخارج السور. يقول باديا: «يوجد خارج أسوار المدينة من ناحية اليابسة تجمع كثير من الأكواخ المأهولة بالسكان بكثافة «(9).
وبعد زيارة علي بك العباسي إلى جدة بحوالى ثمانية أعوام وصل إلى جدة أول رحالة سويسري يزورها وهو الرحالة الشهير جون لويس بيركهارت قادمًا من مصر عام (1814م).
وقد قام بيركهارت خلال الأربعين يومًا التي مكثها في جدة بتسجيل مشاهداته عن هذه المدينة وأسواقها وأهلها ومساكنهم وعاداتهم وطبائعهم
كما وصف أعداد الدكاكين والمحلات التجارية والمقاهي والخدمات وغيرها وسجل كل ذلك تسجيلًا تفصيليًا ربما كان غير مسبوق. لذا فإن رحلة بيركهارت إلى جدة (وغيرها من مدن ومحطات الحج) تعتبر إحدى أهم الرحلات المسجلة إلى هذه المدن المختلفة وقد ضمن كل ذلك في كتاب معروف عن رحلته.
وقام بيركهارت بوصف سور جدة وتحصيناته وصفًا دقيقًا.
ويخبرنا بيركهارت أن السور الذي بناه حسين الكردي عام (915ه) بأمر السلطان قانصوة الغوري كان قد تهدم ودمر تقريبًا وأن السور الذي رآه بيركهارت كان قد بني بأيدي سكان جدة قبل عدة سنوات من زيارته للمدينة عام (1229ه/1814م).
أي أن هناك سورًا آخر تم بناؤه حول جدة مما يعني أنه كان قد بُني لجُده أربعة أسوار على الأقل منذ السور الذي قيل إن الصحابي سليمان الفارسي -رضي الله عنه- هو وأهله كانوا قد بنوه قبل الإسلام عندما استوطنوا جُدة .
وقال عن هذا السور الجديد: «أما بنية الحائط الحالية فإنها تعتبر حاجزًا كافيًا للعرب الذين لا يمتلكون أي مدفعية».
ويصف بيركهارت السور ومنشآته فيقول: «وقد تم تدعيم الحائط عند كل أربعين أو خمسين خطوة لدعم وزيادة وسائل الدفاع وقد حُفر خندق ضيق على طول امتداد السور. وهكذا، تتمتع جدة بشهرة في جزيرة العرب بأنها قلعة حصينة منيعة. ويقف الحائط القديم على الشاطئ بمواجهة المدينة لكنه في حالة متداعية. ويقع قصر الحاكم عند الطرف الشمالي، قرب النقطة التي يتلاقى فيها الحائط الجديد مع البحر، وعند الطرف الجنوبي قلعة صغيرة مجهزة بثماني أو عشر بندقيات. فضلًا عن ذلك، هناك بطارية مدفعية لحراسة مدخل المدينة وحمايته من جهة البحر وللسيطرة على الميناء بأسره، وهنا أيضًا نُصِبَ مدفع قديم ضخم عليه «كُلَّيه» تزن خمسمائة باوند، وهي من الشهرة بمكان في منطقة البحر الأحمر كلها بحيث إن شهرتها هذه فقط تُعد حماية لمدينة جدة.
ويبين بيركهارت أنه كان لجدة من جهة البر بوابتان وهما باب مكة في الجنوب الشرقي وباب «المدينة» في الجانب الشمالي. وقد أغلقت مؤخرًا بوابة صغيرة في الحائط الجنوبي. كما أن المنطقة المحاطة بالحائط الجديد (ويبلغ محيطها نحو ثلاثة الاف خطوة) وبالبحر لا تكثر فيها الأبنية (10).
وفي عام (1834م) قدم الرحالة موريس تاميزييهالي جدة والذي يعتقد أنه كان أول فرنسي يزورها، وقدم لنا تاميزييه في كتابه (رحلة في بلاد العرب) وصفًا دقيقًا ومفصلًا لجدة كما شاهدها ولسورها الذي رآه.
يقول تاميزييه واصفا سور جدة والتحصينات التي كانت به:
«أما السور الذي يحيط بالمدينة، فقد كانت تتخلله القلاع، التي تختلف حالتها من واحدة لأخرى، والتي كانت الأجزاء الرئيسية منها مدعومة ومحصنة بقطع المدفعية.
وقد شيدت اثنتان من القلاع وكانتا شبه جيدتين عموما، في كل طرف من أطراف الميناء الرئيس.
وقد شيدتا خصيصا بغرض استغلالهما في مراقبة أمن الميناء وحمايته وسلامته وقد تمت تعلية القلعة الواقعة في وسطهما حديثا وفي الفترة الأخيرة، كما أن هناك سورا عمليا يقوم على امتداد الرصيف الخاص بالميناء يصل إلى ذلك الواقع في الناحية الشمالية.
وتتخلل هذا السور أربع بوابات تطل على البحر، وهو بذلك يقوم بتكملة نظام التحصينات الخاصة بمدينة جدة كلها «(11).
اما الرحالة شارل ديدييه ثاني الفرنسيين قدومًا إلى جدة، والذي زارها عام 1854م فقد رأى السور المحيط بجدة وتحدث عنه ووصفه بإيجاز وتحدث عن بعض أعمال الصيانة التي كانت تُجري على السور. يقول ديدييه:
«والمدينة محاطة من الجهة الاخرى بسور سميك، مرتفع بما يكفي، مصان صيانة جيدة، مسبوق بحفرة عميقة، وعليه أبراج في حالة جيدة»(12).
وبعد رحلة ديدييه قدم إلى جدة فرنسي آخر، حيث زارها الرحالة جيل -جرفيه كورتلمون عام (1890م) وترك لنا في كتاب عن رحلته أحد أوسع الاوصاف للمدينة ورسم جزءا من السور المحيط بها وضمن هذه الصورة في كتابه وقال عن جدة: «إنها محاطة بسور قوي» ولكنه قال أيضا: «إلا أن هناك فتحات تنتشر هنا وهناك على طول السور المهترئ، وبخاصة في الجنوب الشرقي حيث توجد بعض الأحجار المنثورة على الأرض كأثر على المكان الذي كان يوجد فيه سور المدينة قديما (13).
ولرؤية «سور جدة» بأعين عربية فإننا سنستعرض حالة السور والمدينة بحسب وصف الرحالة العربي «البتنوني» الذي زار جدة عام (1909م) في معية خديوي مصر (عباس حلمي باشا الثاني) وكتب كتابا عن رحلته تلك، ووصف فيه المدينة ومنشئاتها وسورها.
يقول البتنوني واصفا سور جدة في كتابه:
«يحيط بجدة سور له خمسة أضلع. فالغربي منها على البحر وطوله 576مترا، والشرقي الجنوبي 315 مترًا، والجنوبي 810 مترًا. وهذا السور بناه السلطان الغوري ملك مصر في سنة (915ه) لمنع الافرنج الذين كانوا ابتدئوا في إستعمار الشرق من طلوعهم إلى جدة وقد أفاد فائدة تذكر في منع البرتغاليين من الدخول إليها في سنة (948ه) وأصلتهم قلعتها هذه الصغيرة نارًا حامية فروا منها إلى مراكبهم تاركين ما كان معهم من الذخائر»(14).
وقبل هدم سور جدة بحوالى عشرة أعوام زارها الطبيب اللبناني الدكتور عبدالغني شهنبدر على رأس بعثة حجاج طبية لبنانية عام (1936م) ووثق رحلته في كتاب مختصر سجل فيه مشاهداته عن جدة وأهلها كما تحدث عن سورها فقال: «وهي (جدة) أمام سواكن الأفريقية تقريبا محاطة بسور قديم له أبواب ستة وهي: باب المدينة، وباب مكة، وباب الشريف، وباب البحر وباب المغاربة، وباب الشهداء» (15).
هكذا بدى سور جدة للرحالة الذين شاهدوه ووصفوه لنا أو غاب عن الذين زاروا المدينة في أوقات وأزمنة كان السور متهدمًا فيها فوثقوا ذلك وبينوا أنه لم يكن لجدة سور يحيطها إبان زيارتهم لها.
المراجع والمصادر:
1- ابن منظور، محمد بن مكرم: لسان العرب، الطبعة الثالثة، المجلد السابع، دار صادر، بيروت، (2004م)، ص/298-299.
2- المقدسي، محمد بن أحمد: رحلة المقدسي - أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، تحقيق شاكر لعيبي، دار السويدي، ابوظبي، (2003م)، ص/97.
3- خسرو علوي، ناصر: سفر نامة، تحقيق وترجمة د. يحيى خشاب، الطبعة الثانية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، (1993م)، ص/137.
4- ابن جبير، أبو الحسين محمد: رحلة ان جبير، دار الشرق العربي، بيروت، (1428ه-2007م)، ص/42.
5- ابن بطوطة، محمد بن عبدالله اللواتي الطنجي: رحلة ابن بطوطة، تحقيق د. درويش الجويدي، الجزء الأول، المكتبة العصرية، بيروت، (1424ه - 2004م)، ص/220.
6- فاريتما، لوفيكو: رحلات فارتيما، تحقيق وترجمة د. عبدالرحمن عبدالله الشيخ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، (1994م)، ص/61.
7- إسماعيل، صابرة مؤمن: جدة خلال الفترة 1286 - 1326ه/1869 - 1908م دراسة تاريخية وحضارية في المصادر المعاصرة، دارة الملك عبدالعزيز، الرياض، (1418ه)، ص/45.
8- نيبور، كارستن: رحلة إلى شبه الجزيرة العربية وإلى بلاد أخرى مجاورة لها، الجزء الأول، الانتشار العربي، بيروت، (2007م)، ص/234.
9- باديا، دمنجو (علي بك العباسي): رحالة أسباني في الجزيرة العربية، ترجمة وتحقيق د. صالح بن محمد السنيدي، دارة الملك عبدالعزيز، الرياض، (1429ه)، ص/125، ص/129.
10- بيركهارت، جون لويس: رحلات إلى شبه الجزيرة العربية، الانتشار العربي، بيروت، (2005م)، ص/18 - 19.
11- تاميزييه، موريس: رحلة في بلاد العرب، ترجمة د. محمد بن عبدالله آل زلفة، دار العرب للنشر والتوزيع، الرياض، (1421ه-2001م)، ص/81-82.
12- ديدييه، شارل: رحلة إلى الشريف الأكبر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي 1854، ترجمة د. محمد خير البقاعي، الدار العربية للموسوعات، بيروت، (1427ه-2007م)، ص/138.
13- كورتلمون، جيل جرفيه: رحلتي إلى مكة، التراث الرياض، (1423ه)، ص/62.
14- البتنوني، محمد لبيب: الرحلة الحجازية لولي النعم الحاج عباس حلمي باشا الثاني خديوي مصر، الطبعة الثانية، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، (1427ه-2006م)، ص/74.
15- شهنبدر، عبدالغني: رحلة الحجاز، مجلة الحكمة، بيروت، (1356ه-1937م)، ص/16.
* باحث وأكاديمي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.