دأب إخوانُنا المتطرفون منذ أمد طويل على اتهام الأقلام التنويرية التقدمية بأنها أقلام شهرة ، وبأنها أقلام لا تحمل هم رسالة إصلاحية عامة ، وأن هدفها هو مجرد الظهور ولو على أشلاء التراث والمسلّمات من أعراف وتقاليد ؛ بدليل أنها تأتي ب( الجديد / المخالف/ المناقض ) لما اعتاد عليه المجتمع الراكد الراقد على ما ورثه من الأسلاف . مجرد المخالفة لم يستطع المتطرفون فهمها إلا من خلال رؤيتهم التقليدية للمعرفة ، تلك الرؤية التي ترى أن درجة صوابية الأفكار تتحدد بدرجة مطابقتها لرؤى السابقين . فكلما كانت الفكرة أشد تقليدية ؛ كانت في نظرهم أقرب إلى الصواب . وبهذا يصبح كل إبداع ابتداعا وخروجا عن الطريق المستقيم ، طريق الأسلاف الذين يفترض أنهم قد كفونا بما خلفوه لنا : (مشقة التفكير) ، ولم يبق لنا من وظيفة بعدهم غير اجترار همهماتهم وهمساتهم الآتية إلينا من غياهب عصور الظلام . ولأنهم لا يفهمون المخالفة والمغايرة إلا على هذا النحو ؛ أصبح كل مخالف باحثا عن الشهرة بالضرورة ، بينما هم الزاهدون بالشهرة = بالخلاف !. كان هذا هو الواقع قبل أن يأتي هذا الطوفان الكاسح من إعلام المتطرفين ، أي أيام كان المتطرفون بأطيافهم المتعددة يتراءون كزاهدين في الظهور ؛ لما يلمسه الناس من عزوف رموزهم التقليدية عن الظهور الاختياري في الإعلام المرئي . لم يكن يدرك محسنو الظن بهم أن ذاك العزوف لم يكن بحال نتيجة زهد حقيقي في الظهور ، وإنما كان نتيجة الأزمة الفقهية الخانقة التي كان يعيشها الخطاب المتطرف آنذاك مع الإعلام المرئي ؛ لكون الإعلام المرئي ظاهرة جديدة لم يعرفها الأسلاف ؛ فلم يستطيعوا استيعابها ؛ فقابلوها بفتاوى التحريم والتجريم ؛ لأنها ( = ظاهرة الإعلام المرئي ) ابتداءً نوع من التصوير ، والتصوير كما يعتقدون جازمين من كبائر الذنوب . لهذا كان لابد من الانتظار ريثما يتوارى المفتون بالتحريم والتجريم ، ليجد المتطرف نفسه وقد بدأ يمتلك مقدرة نسبية على الحراك . هذا الوضع خدع كثيرين منا . ففي فترة مضت ، كان بعضنا يظن أن اتهام المتطرفين للتنويريين بحب الظهور لا يأتي من باب الإسقاط ، ولا من باب الهجوم المضاد ، ولا من باب الشبق الجنوني للظهور ، ذلك الشبق المتخفي خلف غشاء رقيق من حسد مكتوم لكل من حضر أو اشتهر ، وإنما كان هذا (البعض) منا يظن أنه هجوم يأتي فقط من طبيعة الجهل بماهية التغيير، التغيير الذي يستلزم بالضرورة فكرا مغايرا لخلق واقع مغاير . أي أن بعضنا كان يتعاطى مع هذه الاتهامات من زاوية فكرية خالصة ، وليس من زاوية سيكيولوجية فكرية ، تقرأ التشوهات النفسية الكامنة خلف هذا الاتهام الموجه لأبناء خطاب التنوير . لكن ، وبعد أن تهاوت تلك الفتاوى السابقة الرافضة للإعلام المرئي تحت وقع سنابك الهوس المجنون بالشهرة لدى أبناء الخطاب المتطرف ؛ سال وادي الإعلام بطوفان المتطرفين . كان المتطرفون ينتظرون من يفتح لهم ولو كوة صغيرة في الجدار المتراص بفتاوى رموزهم الاعتبارية ؛ كي ينفذوا من خلالها . وكانت الخطوة الأولى الجريئة مبادرة من عدد محدود من عشاق الظهور المعروفين منذ بداية التسعينيات من القرن الميلادي المنصرم ، والذين أصبحوا نجوم الفضائيات في بدايات هذا القرن . خطا هؤلاء الخطوة الأولى ، وحينئذٍ حدث ما لم يتوقع أحد حدوثه ، فبمجرد أن عُلق الجرس بمبادرة تجمع بين الرغبة العارمة في الظهور ، والخوف الخجول من تهمة خيانة خطاب التشدد والانغلاق بممارسة شيء من الانفتاح الإعلامي ، وقبل أن يملأ أي منهم رئتيه بالهواء استعدادا لخوض ماراثون الشهرة المرهق ، طاروا إلى الميدان زرافات ووحداناً بعد أن أبدى الإعلام المتطرف ناجذيه لهم . لم يستطيعوا مقاومة الإغراء ؛ فاندفعوا في تهالك جنوني على الظهور ، وتهافتوا كالفراشات على نيران الإعلام ، وكان المتأني المتردد منهم ، فضلا عن الغرّ المستعجل ، يتجه صوب رائحة الشهرة الساحرة كأنما هو مسحور ، يتجه صوب رائحة الكاميرا النفاذة مغلقا عينيه في حالة هيام ، وفاتحا منخريه بأقصى ما يستطيع ؛ فتكون النتيجة أن يقذف بنفسه من شاهق في بحيرة الإعلام الهادرة ؛ قبل أن يتعلم أبجديات فن العوم . ولكن ، من العشق ما قتل !. قصة إخواننا المتطرفين مع الإعلام ، وخاصة الإعلام المرئي ، قصة تثير كثيرا من الشفقة عليهم ؛ بقدر ما تثير كثيرا من الحنق على خطاب تكفيري مُدمّر ، يسعى للعودة من جديد كخطاب مشروع ، بل كخطاب بديل عن كل مشروع . عشقُ المتطرفين للظهور الرخيص والسريع ، أدى بهم إلى ارتكاب فضائح فكرية وإخفاقات إعلامية فنية على الهواء ، تكاد تصيب مشاهديها بالاختناق . هكذا تجدهم ؛ دونما أدنى مهارة إعلامية ، ودونما إعداد مسبق ، ترى مجموعة منهم وقد جمعوا بعض ( التبرعات ) من سُذّج رجال الأعمال ومغفليهم ، ففتحوا بها إحدى قنواتهم الفضائية الذكورية . وبهذا تنتقل سلوكيات البلادة وأفكار التطرف من زوايا المجالس الخاصة إلى عالم الفضاء الرحب ، حيث يشاهد الجميع مهازل إعلام المتطرفين . لا أتعمد في هذا التوصيف أن يعكس أية صورة من صور السخرية بهم ، بل لا أحتاج لذلك ، إذ الحقيقة أنهم بأنفسهم يُقدّمون بمجانية وبكرم باذخ نماذج ساخرة لا مثيل لها ، نماذج يصعب حتى على أعدائهم خلق بعض صور منها ، فكيف بكل هذا الزخم من كوميديا إعلام المتطرفين . إن ناقدي خطاب التطرف من صناع الدراما ، لا يحتاجون إلى مشاهد مبالغ فيها لتصوير إعلام المتطرفين . يستطيعون توفير تكاليف تمثيل هذه المشاهد ، باقتطاع بعض المشاهد المتطرفة من هذه الفضائيات كيفما اتفق . وستكون المشاهد حتما مشاهد كوميدية ناجحة بامتياز ، ولن يستطيع أحد اتهامهم بالمبالغة والتهويل وتعمد التشويه ، فالمشاهد مأخوذة من واقع إعلام المتطرفين ، وليس من تمثيل يحاول تصوير هذا الإعلام . بمجرد أن تقع عينك على إحدى قنوات المتطرفين ، سترى مشاهد مسلية جدا ، مشاهد مبكية مضحكة ، مشاهد لامعقولة ؛ لأنك ستجد نفسك حتما في عالم غير معقول . الضحك والبكاء والهدوء والصراخ ولامعقولية المشاهد ، لا تأتي من خلال بُعد واحد من أبعاد الصورة التي أمامك ، بل كل الأبعاد تؤدي إلى روما ، أقصد إلى مهزلة إعلام المتطرفين . لا يبدأ الأمر من تقنيات الإخراج ، حيث تقف الكاميرا فترة طويلة وهي جامدة أو حائرة ، وكأنها كاميرا ثابتة . ينتقل الحديث أحيانا من شخصية إلى أخرى ، ومع هذا تبقى الكاميرا نائمة على حواف أصداغ المتحدث الأول . تحتاج الكاميرا إلى وقت طويل ، قد يمتد لدقائق ، لتفطن أن المتحدث قد تغير وأنه يجب تغيير وضعية الكاميرا. زوايا أخذ الصورة ترسل رسائل كوميدية ، حيث تبدأ اللقطة الجانبية أحيانا من أسفل لحية المتحدث ، ولكن للأسف ، تكون في الوقت نفسه تنقل بالمصادفة انبعاج الكرش الكبير المُتراقص بفعل قهقهات المتحدث الوقور الذي يحاول (التنكيت) ؛ ليقنع المشاهدين أن المتطرفين بشر أسوياء قادرون على الابتسام ، والدليل أنهم يُحبّون (النكتة) ، ولا يُحرّمون (الابتهاج المُباح!) ، أي ليثبت عكس الصورة النمطية التي ترسّخت في أذهان الجميع عن سلوكيات المتطرفين . أحيانا يُضيف المخرج بعض المؤثرات الصوتية (طبعا غير الموسيقية ، فالموسيقى حرام كما يعتقدون جازمين) ولكن يفشل في جعلها متلائمة مع المشهد ، بحيث تكون ابتهاجية مع أن الحلقة عن الثعبان / الشجاع الأقرع في القبر المظلم ، أو العكس ، تكون أناشيد عن الكفن والقبر ومنكر ونكير ، بينما المشهد يعرض ( رحلة وناسة ذكورية ) بغية الترويج لانفتاح المتطرفين. إن كل هذا ، وغيره من الإخفاقات التي تضع إعلام المتطرفين في خانة : كوميديا واقعية ، ناتج عن عدم الاحتراف ، وعن الزهد في الاستعانة بالمحترفين ؛ فالمخرج لديهم مثلا ليس شخصا متخصصا في فنون الإخراج التلفزيوني ، بل متبرع جاء نتيجة فزعة من (أحد الإخوان) ، قيل له : احتسب وأخرج هذا البرنامج (الهادف!) ، ففرك يديه بحبور ظاهر ، ومَدّ عُنقَه إلى الأمام قائلا : على بركة الله !. هذا من حيث طبيعة الإخراج ، أي من زاوية العمل الفني البحت للمخرج أما من حيث شخصيات الظهور ، من مقدمين وضيوف ، فالمشاهد طافحة بالغرائب والشوارد التي لا تجد لها مثيلا إلا في إعلام المتطرفين . اهتمام مبالغ فيه بالمظهر ، أو رثاثة تستحق الرثاء . لا معرفة بكيفية الخروج الطبيعي التلقائي غير المتكلف . لهذا ، وعندما تشاهد بعضهم ، تتوقع أنه جلس ثلاث أو أربع ساعات وراء المرآة مستعينا ب(علبة مكياج المدام) ، أو أنه مرّ على أشهر محلات (الكوافير الرجالية!) وأنه من قبل ذلك طاف ولمدة بضعة أيام عجاف على أشهر محلات (البشوت) و(الغتر) ؛ ليخرج في ليلة عُرسه الفضائي بصورة اختلطت في وعيه بين نجومية البرنامج الفضائي ونجومية العريس في ليلة العمر . بعضهم ، ولأنه قريب عهد بالظهور في الإعلام المرئي ، لم ير الأمر طبيعيا ؛ ولهذا لم يستطع التعاطي معه كحدث طبيعي . ولأنه لا يعرف إلا مهارة تصفيف الشماغ ؛ فقد سارع إلى إفراغ علبتين كاملتين من (النشا) على شماغه الجديد ؛ حتى أصبح الشماغ بمتانة ألواح الصفيح . ولهذا فهو عندما يُلقيه على رأسه ، وبصورة لم يعهدها من قبل ، يغدو وكأن رأسه رأس أرنب مذعور في آخر جحر مظلم . الكاميرات اللاقطة التي يُدير مُصوّريها ذلك (المُخرج الفزعة) تبحث عن الوجه فلا تجده . لهذا يُضطر المصور إلى التصوير المقابل ، أي بخط مستقيم ؛ ليستطيع التقاط بعض ملامح الوجه المُختفي في ظلمة آخر النفق ، النفق المُتكون من خيمة الشماغ المُقوى . بعضهم الآخر ، يطوي شماغه أو غترته بطريقة (غرائبية) ، أي كأنما أُلصق الشماغ على جانبي الرأس ب(الغراء) وهو طوال فترة العرض في ذعر شديد من أن يتحرك أي عضو من أعضائه ؛ حتى لا تنتقض (تسريحة الشماغ) أو (تسريحة الغترة) فتغادر مكانها المقرر لها سلفا . وطوال التصوير تجد المسكين مشغولا بتثبيت التصاق الشماغ بكتفيه أو بوجنتيه ، حتى ليصل الانشغال إلى أن يراجع ترتيب (التسريحة الشماغية / الغترية) في الدقيقة الواحدة أكثر من عشر مرات ، وكأنه لم يأت ليتحدث أو ليقول شيئا ، وإنما جاء فقط لعروض شكلية ، أي ليمنحنا ساعة تأمل في وجهه الاستثنائي ، أو ليعطينا درسا في فنون تثبيت هذا النوع من التسريحات الذكورية ، أو ليحوز بشهادتنا الرقم القياسي في عدم تغيّر تسريحة الشماغ لأطول وقت ممكن . المسكين يتوقع أن المشاهد مهموم بتسريحته ، وأن أي خلل فيها ولو بالسنتمتر الواحد سيعكر مزاج (المُشاهد) المغرم . والأشد من كل ذلك أنه وخلال كل هذا العناء تكون رقبته قد تسمّرت ، فلم تستطع الحراك في أي اتجاه ، بل هي متصلبة من الأسفل ومن الأعلى . لم تصبح رقبة بفقرات مرنة ، بل صخرة في سارية . ولهذا حين يقرر الالتفات بعد لأي ، يلتفت بالجملة ، وقد شد كتفيه بخط مستقيم ، فبدا وكأنه إنسان آلي ، يتم التحكم به عن بعد ، حيث لا مساس !.