كتبتُ قبل ما يزيد على عشرين عاماً مقالاً للاجابة عن سؤال في ذلك الوقت: هل يصنع التلفزيون مجرماً؟؟.. وترجح لدي أن التلفزيون لا يصنع مجرماً، وإنما قد ينمي بعض السلوك السيئ، ويغرس عادات تربوية لاأخلاقية في الأطفال. لكنني اليوم بعد أن اطلعت وغيري على نتائج الدراسات للمؤتمرات الإعلامية بشكلها العام التي توصلت إلى حقائق مهمة منها أن ثورة الاتصالات بأشكالها المختلفة بما فيها القنوات التلفزيونية الفضائية أصبحت تؤثر بل وتقود إلى مجموعة من العادات التي قد تصنع مجرماً من طفل بريء، وفي مجمل هذا الأمر فإن القضية لم تعد كما كتبتُ في ذلك الوقت مؤثراً تلفزيونياً ومجرد قناة أو قناتين فيهما برامج دينية وثقافية وغنائية ولكن القوة الإعلامية المؤثرة في الطفل انتقلت إلى مجموعة أكبر من المؤثرات الإعلامية، ودخلت في أدوات التسلية للطفل في غفلة من الآباء عبر أجهزة البلاي ستيشن والنينتيندو والسيجا والإكس بوكس وغيرها، وركبت بعض الشركات موجات التقنية الحديثة لتصل إلى الطفل بثقافات خطرة عبر المواقع المختلفة الخاصة بالأطفال والناشئة في شبكة الانترنت، ومواقع المحادثة (المسنجر) وعبر مواقع الخدمة البريدية (الإيميل) و(اليوتيوب) وغيرها. وفي تقرير حديث عن الألعاب الالكترونية وأخطارها في منازلنا، تحدثت الباحثة جنان حسين في تقرير لها نشر بمجلة اليمامة بتاريخ 30 يناير 2010: «إن معرفة أطفالنا بالتقنية الحديثة ليس خيراً مطلقاً، لأن هذه البرامج التي تحاصرهم بشتى ألوانها وهم جلوس أمام الكمبيوتر أو يتحدثون في الجوال أو يلعبون يمكن أن تتحول إلى أمراض مزمنة في المستقبل، وأن معظم الألعاب التي أصبح يقبل عليها الأطفال ويحرصون على مزاولتها عبر أجهزة الكمبيوتر المحمول تعتمد على العنف والانتقام وحب التدمير، وقضايا أكثر عنفاً وأكثر خطورة. ولفت هذا البحث النظر إلى أن الشركات تحرص على تطوير برامجها ليكون فيها عامل الجذب بصورة أكبر وإبهاراً دون الالتفات إلى أي معايير تربوية أو نفسية، ولا شك أن مما يساهم في ذلك ضعف الدور الأسري، وغياب كامل عن هذه الهجمة الجديدة، ومقابل ذلك ندرة البرامج التربوية الهادفة، اضف إلى أضرار صحية بسبب الأشعة الكهرومغناطيسية التي تصدر من بعض هذه الألعاب، وتؤثر في مرضى الصرع، وتسبب موجات من التشنج في بعض الأحيان، وقد تسبب أمراضاً عصبية أخرى في اليد والرقبة. لكن الأخطر هو أن جلوس الطفل مع هذه الأدوات الإعلامية الالكترونية يشكل خطراً واضحاً، ونحن في غفلة عنه، وكذلك الآباء والأمهات ولا ننتبه إلا بعد حدوث الكارثة»(1) وأنا ممن يؤيد هذا الاتجاه، وأننا أصبحنا أمام تحد جديد يتطلب العناية بالطفل وما يشاهِد قبل العناية بما يأكل، ولابد من تقنين مدة المشاهدة ووقت الألعاب بالكمبيوتر. ومن هنا نجد أن بعداً جديداً قد دخل في هذه القضية، فهذه الألعاب والبرامج التي يغفل عنها الآباء والمدرسون يقع الطفل ضحية لها، لأنها تأخذ بيده إلى عالم العنف والصدام مع الأسرة ومع من حوله، بل قد تقفز به إلى مراحل متقدمة من الجريمة تغرسها في نفسه أنواع من الألعاب التلفزيونية المباعة مثل (حرامي السيارات) و(كول اوف ديوتي) و(رزيدنت ايفل) التي تغرس الجريمة نفسها وألواناً من الدعارة والسخرية من الأبوين ، والعنف مع الآخرين في نفوس هؤلاء الأطفال. ومن هنا فإنني أحس أن من واجبنا أن نعيد النظر في قضية الألعاب وليس عن طريق المنع، فنحن لن نستطيع منعها بأي حال من الأحوال، فهي تأتي عبر قنوات ووسائل تسلية لا قِبل لنا بصدها، وإنما كل الذي نستطيع أن نفعله هو أن نعين أولادنا على حسن الاختيار، ثم أن نؤدي الواجب بالجلوس معهم بين وقت وآخر لمشاهدة هذه الألعاب المختلفة حتى لا تكون الصدمات قوية، وهم على انفراد، فقد اصبحت فعلاً أدوات خطيرة جداً تغرس ألواناً من الممارسات في نفوس الأطفال، وقد ينشأ الطفل على مثل هذه العادات لأنه تعلمها في غفلة منا، في وقت نشتريها نحن له للتسلية. وقد أسعدني أن كنت ذات صباح أشاهد برنامج (صباح السعودية)، وقدم البرنامج صوراً من هذا اللون من الألعاب وخطورتها، واستضاف بعض أساتذة الجامعات ورجال الاجتماع، فشاركوا في إلقاء الضوء على هذه الظاهرة الخطيرة، وكانت أسئلة مقدميْ البرنامج الابن محمد الرديني والابنة سميرة المدني جميلة ساهمت في ايضاح الصورة. ومن هنا فإنني أشعر بأنني قد غيرتُ رأيي فعلاً، بعد أن كتبت يوماً من الأيام، وتحدثت عن هذا الموضوع لأجد ان الأمر قد اختلف الآن، فقد كتبتُ في حديثي السابق قبل عشرين عاماً وقلت يومها: «إن من واجبنا أن ندرس ونتنبه لأبعاد ومخاطر هذا البث القادم الذي أخذت دول العالم تتحسب له، حتى إن أوروبا قد عقدت عدة مؤتمرات درست فيها اثر الأقمار التلفزيونية على أجيالها.. وعلى الرغم من اتجاه أوروبا إلى التقارب الاقتصادي والسياسي إلا أن كل دولة تريد أن تحافظ على شخصيتها الثقافية وتبقي ذاتيتها وتحرص على تمييزها، والدول الأوروبية مثلنا تخشى وتتخوف من البث القادم بواسطة تلفزيون بلا حدود، وهكذا فعلت اليابان وأخذت تدرس أبعاد هذا الغزو على ثقافتها وقيمها وتفكيرها. وهكذا يجب أن تعمل الدول النامية عموماً وخاصة نحن في أمتنا العربية والإسلامية لأن التأثير بالنسبة لنا أعظم حيث سيكون في اتجاه واحد، فسوف نستقبل ونتأثر دون أن يكون لدينا أي خيار أو قدرة على التبادل أو التأثير المزدوج، والفجوة بيننا وبينهم كبيرة وعميقة، وقيمنا متباينة في كثير من الأحيان، وتربيتنا مختلفة(2). وقلت يومها أيضاً إن كل اجراءات الحذر والمنع والرقابة لن تكون ذات جدوى، لأن البث التلفزيوني سيصبح مثل البث الاذاعي تماماً، بل قد يتوسع بسبب القفزات التكنولوجية السريعة التي ستحول العالم إلى قرية تلفزيونية صغيرة، اضف إلى ذلك كل هذه المؤثرات إلى جانب التلفزيون التي أخذت تؤثر في أطفالنا بصور مختلفة ومؤثرة حتى أظهرت بعض الدراسات الميدانية والمختبرية كيف أنها تؤثر في اتجاهات وقيم الأطفال الاجتماعية والسلوكية التي تتشكل على وجه الخصوص من خلال المشاهدات التلفزيونية المتكررة حتى إن بعض الأطفال يتأثر بشكل يفوق أبعاد المتعة العابرة أو التسلية، وبينت تلك الدراسات ان الأطفال الذين يتميزون بعدوانية سابقة هم الذين يتأثرون أكثر من غيرهم بمشاهد العنف التلفزيوني، ولعل الإجابة من كل هذه الدراسات تأتي لتؤكد ان التلفزيون فعلاً يؤثر ويساهم في زيادة الجريمة وفي تنوعها وابتكار طرق جديدة لها وتطور أشكالها دون شك ولكنه لا يؤثر بمعزل عن العوامل والمتغيرات والظروف الاجتماعية والبيئية والنفسية للمجتمع، وبالتالي فنحن نتوقع مع وصول البث التلفزيوني المباشر إلى كل منزل أن يساهم في زيادة العنف والسلوك العدواني وربما الجريمة المباشرة ولكن لن يكون تأثيره بصورة متساوية في جميع المجتمعات ولا بنفس الدرجة لأن قضية التأثير سوف تخضع لعوامل أسرية وبيئية وثقافية، فكلما كان المجتمع واعياً مدركاً لأبعاد هذا الخطرا سهل تقليل أثره ومقاومته من قبل برامج جيدة للأسرة والمجتمع، وسوف يكون تأثيره أكبر في الدول والمجتمعات التي تعاني من البطالة والفراغ وتردي مستوى التعليم لأن الحصانة الحقيقية لن تكون في منع هذا البث أو تحريم تداوله - وهو ما يبدو أمراً غير ممكن مستقبلاً - ولكن الحصانة تكون عن طريق التوعية وتحسين فرص العمل وتطوير مستويات التعليم وتنويعها بصورة تحقق حاجات المجتمع(3). وختاماً فالقضية تحتاج إلى جهود مشتركة للتعامل مع الأدوات الإعلامية التي ذكرتها سابقاً وفي مقدمتها التلفزيون والانترنت ومواقعها المختلفة، وأجهزة الألعاب الالكترونية للأطفال في عصر ثورة التقنية وثورة الاتصال، وهو جهد يشترك فيه الوعي الوطني والوعي الثقافي والدور التربوي الذي يستوعب هذه المخاطر، ولا يلجأ كما أسفلت إلى موضوع المنع بل يدخلها بوعي تربوي داخل برامج التربية والتعليم، ثم تأتي أهمية الدور الإعلامي وايجاد البدائل التي تشجع الناس والناشئة خاصة على مشاهدة برامجنا، والموضوع بكامله يحتاج إلى دراسة مستفيضة وخطوات جادة نواجه بها هذا المد الخطير. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.. --------- (1) الألعاب الإلكترونية أخطار في زوايا منازلنا، جنان حسين، مجلة اليمامة في 30/1/2010 (2) التلفزيون العالمي هل يؤدي إلى نمو الجريمة، د.محمد عبده يماني ص2. (3) التلفزيون العالمي هل يؤدي إلى نمو الجريمة، د.محمد عبده يماني ص17، 18.