إن الأمثلة التي أوردتها في مقالاتي الأسبوعية المتعددة، والتي تكشف ما رافق جهود تطوير التعليم من ضغوط وشكوك ومعارضات باسم حماية الدين فأبطأت من حركته، وأبطلت كثيراً من برامجه التطويرية، وعوَّقت بعض مظاهر نهضته لست قاصداً بها الثناء على نفسي أو أي شيء من ذلك كما يظن البعض.. لكن الأمر هو أن المرجفين المعوقين باقون حتى اليوم، متواجدون أمام كل مسيرة تطور، وفكرِ كل تغيير، ولا خير فينا إذا لم نستفد من تجارب الماضي، ونعمل حسابنا لتجنب ما قد يتكرر من مواقف تعويقية غير صائبة، ولعل ما ذكرته من تلك المواقف الاعتراضية على المشروعات التطويرية دون مسوغ إنما أقصد به التنبية لمن هم الآن في هذا الموقع وغيره ليتخذوا العدة لمواجهة ما قد يتكرر من هذه الفئة التي آمل ألاّ تكون متربصة الآن لكل عمل تطويري كما كانت في الماضي. *** إنه إن خالفك أحد الرأي فيما ترى، وبين لك ما يراه هو من ملاحظات موضوعية أو علمية فإن الإصغاء له واجب، فربما يكشف الرأي الآخر عن شيء غاب عنك. لكن أن تكون المعارضة ناتجة عن أن المشروع الجديد والفكر التطويري متعارضان مع الدين - دون حجة قاطعة - فهذا لا شك - عندي - رأي منحرف غير صواب، ولكي أوضح الأمر أكثر.. فإن مخالفة الرأي أو الاعتراض على بعض المنطلقات التربوية إذا كانت نتيجة دراسة وتجربة ورأي عالِم تربوي في الميدان فإنه قد يكون مقبولاً.. أما التطاول بالقول على صاحب الفكر الجديد بالشك في معتقده الديني، ومخالفة فكرته للشرع الإسلامي فإن ذلك قول يجب رده وحسم الأمر معه، إذ ليس من حق أحد الحكم على الناس بفساد دينهم، أو خروجهم - بما يقدمون من مشروعات جديدة وأفكار تطويرية - عن معتقدهم إلا مع دليل واضح وضوح الشمس في رابعة النهار. ومن ذلك الإِرجاف أنني حين ناديت بإدخال التربية البدنية المحتشمة في مدارس البنات هاجم بعضهم ذلك هجوماً عنيفاً؛ بحجة أنه مخالف للشريعة الإسلامية، وقد أنصفني سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - حين قال: إن هؤلاء قد اخطأوا في حقك، وعليهم الاعتذار لك، وهي قصة طويلة معروفة لكثير من المتابعين. *** وأيضاً حين أدعو بإلحاح ألاَّ يُساء الظن بالآخرين أو الطعن في عقيدتهم دون معرفة جواهر نفوس الناس وقلوبهم فإن ذلك جاء نتيجة ما لاقيته من تصرفات بعض المناوئين لكل فكر جديد، حتى أنهم شككوا في صدق تمسكي بديني، وتعجبوا كل العجب حين كانوا يشاهدونني مع بعض أصحابي في رحاب الحرم المكي الشريف وأنني - في نظرهم الغبي - لست ملتزماً بديني، وأني لا أزور بيت الله، بل وصل الأمر بهم يوماً أن تجمعوا وزاروا أحد أصحاب الفضيلة من مشائخنا الفضلاء، وتحدثوا عنده بما يرونه هم شططاً في توجهاتي الفكرية فدافع عني شيخنا الكريم مشكوراً وقال لهم: (إني أشهد أن محمد الرشيد يصلي)، وحين نقل لي شيخنا هذه القصة ضحكت، وشر البلية ما يُضحك.. يا الله... صارت شهادة حسن السلوك تأتيني من أناس لا يعرفونني، بل هم في حكمهم هذا غير عارفين بقواعد الدين وشروط الحكم والشهادة على الآخرين وغير ملتزمين بها، وصار قصارى الثناء عليَّ أنني أصلي!!!. وإني لأتعجب بأي حق نصبوا أنفسهم حكاماً على أخلاق الناس، وقضاة لإصدار الشهادات السلوكية دون معرفة حقيقية بهم. *** واليوم آمل آلاّ يلاقي من ينادون بأمور تطويرية نافعة في حياتنا الاجتماعية والثقافية - ليس فيها ما يخالف الشرع، أو ينافي صحة العقيدة- مثل ما لاقيته من سوء ظن، وطعن في المعتقد.. مما قد يعوق تحقيق هذه المشروعات والتوجهات التي هي جد سليمة نافعة.. ومن ذلك ضرورة التخلي عن: أولاً: حمل المرأة المسلمة على غطاء وجهها: ومنعها من مزاولة أمورها الحياتية التي لم يرد في الدين ما يحرمه عليها، ومن ذلك قيادة دابتها - التي أصبحت اليوم هي السيارة" فما أحرى أن تقودها اليوم وهي محتشمة في لباسها، متحجبة حجاباً شرعياً - اتفق العلماء الأجلاء على وصفه - أن في حملها على غطاء الوجه تشدداً شوه ديننا الحنيف السمح الجميل، وجعل أعداءه يتندرون به، ونسي هؤلاء المتشددون أن الله أرادنا أن نكون مبشرين وميسرين ولسنا منفرين، وفي كل ما نزاوله من تشدد لن يساعد على تحقيق الفضيلة، ولا دفع المكروه حين يريد الضال ارتكابه، ولم نجد في البلاد الإسلامية وغير الإسلامية أن قيادة المرأة للسيارة كانت سبباً لإحداث خلل في السلوك المستقيم؛ ونعلم جميعاً أن أهل العفة والاستقامة ذكوراً وإناثاً لن يصرفهم عنها صارف، والمنحرفون من الذكور والإناث لن يوقفهم عن ممارسة أعمالهم المنحرفة حاجز مهما كان. *** ثانياً: الموقف من أهل المذاهب الإسلامية التي تخالف مذهب أكثرنا: وهي مواقف تحمل في مجملها على الكراهية والتباعد، ونحن في زمن أشد ما نكون حاجة فيه إلى رأب الصدع، وتلمس ما يجمعنا، والحوار الهادئ حول الأمور التي نختلف عليها.. أخذاً بالمقولة: (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه) وأجزم أن ما نختلف فيه هو أمور فرعية، وما نتفق عليه هو الأصول الثابتة التي لا مجال للجدال والاختلاف فيها. *** ولقد سمعتُ أحد المرموقين علمياً، وثقافياً من بلد عربي شقيق يقول: لا أعرف مذهباً إسلامياً ينكر أو يشكك في أن الإسلام بني على خمسة أركان، جميعنا متفقون عليها كلها، متمسكون بها، وأن قبلتنا على تعدد مذاهبنا واحدة، وقرآننا واحد - وما دمنا متفقين على هذه الأركان والأصول فاختلافنا في فهم بعض الفروع لا يعتبر بوناً شاسعاً، ولا اختلافاً جذرياً يجعل بعضنا ينفر من البعض الآخر ويعاديه. *** يصل بحمل الأمور أكثر مما تحتمل درجات كبيرة، ومن ذلك ما قاله لي أحد المسؤولين الكبار حين نمى إلى علمه محاولة اعتداء أناس على صاحب محل يبيع ضمن بضائعه في محله التجاري أنواعاً من الكؤوس زعموا أنها لا تستعمل إلا للخمور، فما كان من ذلك المسؤول الفطن إلا أن دعا هؤلاء الناس للعشاء، ووضع أمام كل واحد منهم كأساً مشابهاً لتلك الكؤوس التي هموا بتكسيرها - وهي مملوءة باللبن، وقال لهم: ألم تصلح هذه الكؤوس للبن.. ألا تصلح للماء؟ فما كان منهم إلا أن فهموا مقصده من ذلك، وعبروا له عن أسفهم. فما الذي جعل أذهانهم تقفز إلى هذا الظن السيئ، وبلادنا ولله الحمد لا تسمح بدخول أي بضاعة في استعمالها، أو تناولها مخالفة للشريعة الإسلامية. *** بلادنا السعودية أكرمها الله بأن جعلها حامية للمقدسات الإسلامية، ففيها مكةالمكرمة، والمدينة المنورة، وأهلها كلهم مسلمون، ودستورها ومصدر تشريعات كل أمور الحياة عندنا هو القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وليس هناك أغلى وأنفس عند أي فرد منا من عقيدته - ولن يسمح قادتها ومواطنوها أن يمارس فيها ما يخل بالعقيدة والأخلاق الفاضلة، وكل أهل هذه البلاد مجتمعون على أمرين رئيسيين: الإسلام ديناً، والمملكة وطناً، وهذان الأمران هما أكبر الروابط وأعظمها في حياة أهل هذه البلاد. *** هناك ثوابت لا مجال للاختلاف حولها - شعائر تُقام، ومحرمات تجتنب، وكلها واضحة وضوح الشمس، نتلوها في قرآننا العظيم الحكيم.. الذي ما فرط في شيء ونقرؤها فيما ثبت عن رسولنا الصادق الأمين - صلى الله عليه وسلم - وما عدا ذلك مما رآه هذا الفقيه أو ذلك العالم فهو محل نظر، وكل أمر فيه آراء فقهية متعددة لسنا مجبرين على الأخذ برأي اختلف العلماء حوله، وقد يكون الأخذ بذلك الرأي صالحاً في ذلك الزمن، ولكنه غير صالح في هذا الزمان. *** وخلاصة القول هي الدعوة إلى عدم الانصياع لأقوال المرجفين، وإنما حسن الظن بالآخرين - وأن نأخذ من ماضينا دروساً نسير عليها في حاضرنا. ولنتذكر ما حدث للملك المؤسس عبدالعزيز - رحمه الله - حين أدخل إلى بلدنا بعض مخترعات عصره وعلومه كأجهزة البرقيات فانشق عليه المعارضون جهلاً منهم وسوء فهم لنفعها، لكنه - كما هو شأن الحق دائماً - حاربهم وانتصر عليهم، وبقيت المخترعات الحديثة لليوم، بل وتتجدد. ما أحكمك يا باني وحدتنا غفر الله لك وأسكنك فسيح جناته. وأليس ما حدث من الفئة الضالة في بيت الله الحرام عام 1400ه والذي انتهى بهزيمتهم، والقضاء على شذوذ فكرهم، وضلالة فهمهم للدين درساً جديداً كافياً - لمن يحاولون الإرجاف اليوم أن يقفوا عند حدهم، ويعرفوا انحراف فكرهم. *** وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم أجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمِدَنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.