نكهة الروايات القديمة : في رواية " رقص " لمعجب الزهراني، الصادرة حديثا عن دار طوى، تحضر نكهة روايات الستينات والسبعينات. تصادفنا رائحة الهم الطليعي ونرصد في شخصية "سعيد" ملامح المناضل التائب الذي يقتات على أمجاده الثائرة. ولا يدري المرء كيف يمكن أن تُصنّف تلك الشخصية، فهي أقرب إلى شخصية الرجل الحكيم منها إلى الثائر، وهي أقرب إلى شخصية العابث منها إلى شخصية المناضل، وهي أقرب إلى الكائن الجمالي الذي يتلذذ بما تجود به الطبيعة من جماليات. تلك الشخصية تتعاطى مع الحياة بحكمة وعبث وجمالية في ذات اللحظة. شخصية "سعيد" هي نتاج مرحلة سادت فيها الشعارات والأكاذيب القومية والنضالات الزائفة، لذا فإن معجب الزهراني لم يبتعد في صياغة نموذج بطله عن النماذج الروائية التي صاغها الروائيون العرب سابقاً، فقدّمه في حالة الرجل الثمل الذي يزهو بذاكرته ويتداعى بالحكايات والأمنيات والأحلام . التحايل الذكي : معجب الزهراني ليس سارداً بالمعنى الاحترافي لهذه الكلمة، وقد يكون هاجسه هو كيفية صناعة حكايته في تجربته الروائية الأولى دون أن يكرر تجربة تركي الحمد في ثلاثيته الشهيرة وذلك على مستوى البطل الأيديولوجي، وكيف يذهب بعيداً عن مأزق "شقة الحرية" التي سجلت ملابسات الابتعاث في زمن الستينيات والسبعينات. كذلك فإن المأزق الحقيقي في تدوين تلك التجربة الأولى هو كيفية النجاة من هيمنة رواية " الحزام " لأحمد أبو دهمان لأنّ تلك الرواية حين صدرت استحوذت على معجب الزهراني وربما وجد فيها ذاته وشغف بها. نستطيع أن نقول إن تلك الروايات تمثل الهيمنة ذات البعد المحلي وهي تتقاطع مع موضوع رواية رقص لذا فإنّ أمر النجاة من عوالم تلك الروايات السابقة ليس سهلا.. هذه الروايات المطبوعة في ذاكرة معجب كيف استطاع أن يمحوها من ذاكرته ليسجل حالة سردية بكراً ويمنح قارئه، بالتالي، حكاية طازجة؟ لقد تحايل الزهراني على هذا المأزق فنيّاً بأنه جعل بطله يتداعى ويثرثر لصديقه المبتعث في فرنسا وتحديداً في "رويان"، ذات المدينة التي عاش فيها سابقاً، في مقايضة بين الطرفين، إذ على سعيد أن يروي حكايته في مقابل أن يساعده الطرف الثاني في العثور على رفيقته السابقة " ناتالي ". يقول البطل الثاني في الرواية " مرحباً ياصديقي الذي طالما فتنتني حكاياته، تريد مني شيئاً وأريد منك أشياء سنتبادل المنافع وستكون الصفقة لصالحي." هذا التداعي جعل النص غير متكئ على حكاية درامية تتصاعد وتتوتر، و لم تبن على سياق زمني يجعل الحدث متدرجاً بل كان الزمن مفتوحاً وذاكرة البطل تأخذ من ذكرياتها وأحلامها ما تريد البوح به، أو ما يسميه البطل الثاني في الرواية بالاستطراد أو الحكي الحر "لم أعد مستاء من هذه الاستطرادات التي تذكرني بتدفق المياه في جروف الوادي مع أول السيل".لكن ذلك البوح جاء مغموراً بسذاجة الحنين، تلك السذاجة هي الخطر على ذاكرة الجنرالات المتقاعدين وعلى ذاكرة المناضلين الذين استبدلوا عناء النضال بالرفاهية وانغمسوا في واقعهم الجديد وما عاد يعني ذلك الماضي إلا ما يشبه التودد بخلق البطولات الواهمة وتمجيد تلك المرحلة برؤية أحادية. جاءت الحكاية في رواية " رقص" في ذاكرة رجل يتدفق بها كمقولات يرددها أحياناً، أو كحكايات هامشية أو كتوجّد على ما انقضى، وأحيانا أخرى كمحاكمة للذات أو للمقارنة بين أوضاع سياسية وحالات اجتماعية. لكن كل تلك الأمور لم تجعل السارد يتورط في تحويلها إلى وثيقة، سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي. لقد ألبسه إلى حد ما حالة شهرزاد. يقول البطل الثاني "لا هذه حكاية تستحق جلسة خاصة، كنت صاحبي سعيد أول المساء وها أنت تنتحل شخصية شهرزاد آخر الليل". سعيد ربما هو زوربا : لا أعتقد بأن عنوان الرواية " رقص " هو مفتاح الرواية، ولا أميل الى مقولات سعيد بطل الرواية في تمجيد الرقص كدلالة تؤكد على أن من يمشي لا بد أن يرقص، بحسب المثل الأفريقي . فالرقص لم يتسرب في النص كحالة فلسفية ، بل تم القبض عليه في حالات الانتشاء ، في صياغته الأولية التي تحمل المسميات للرقصات محلياً وعالمياً . لقد حاول البطل أن يتجذر في تعميق رؤى الرقص، وإلى حد ما في التجادل مع المقولات في الثقافة الشعبية التي ترفضه أحيانا "من رقص نقص" ومن الانجذاب له كحالة تطهرية وبين المفارقات التي تحدث عند الرجل العربي الصارم المكتسي بقساوة ظاهرية فيما هو يتأجج طربا ونشوة حين يرقص ويسمح لجزئه الأنثوي أن يعبر عن خلجات جسده. فالرقص المبني على نشوة الانتصار الحربي لا يشابه الرقص المتولد على هامش الليالي الحمراء. كذلك فإن للرقص أطره حين تصاحبه بواعث الطقس الديني عند بعض الفرق. كانت حالات الرقص المبثوثة في الرواية تتآخى مع الرجل الباحث عن جماليات الحياة، لذا فإن هذه الحالة الراقصة تتقاطع مع بطل كازنتزاكي الشهير "زوربا" في نقطة ضئيلة جداً، لكن الالتقاء الحقيقي بين شخصية سعيد وشخصية زوربا تأتي في فلسفة الحياة، فكما ترك كازانتزكي في روايته الشهيرة ( زوربا ) للشخصية المساندة في النص والمتمثلة في شخصية الكاتب أن تصغي للبطل زوربا وتبتهج أحيانا مع مقولاته وتندهش أحيانا وتنصدم في حالات أخرى من تلك العبثية والرؤية العميقة للحياة نجد أن معجب الزهراني يضع شخصية مساندة في روايته فتكون هي المحرض للبطل بأن يروي وينهمر بالحكايات، ومن هنا تأتي فلسفته عن السياسة، الناس، الأمكنة، المرأة، والسجن. الفارق بين الحالتين في الروايتين أن كازنتزاكي استطاع أن يضع فارقاً كبيراً بين شخصية زوربا وشخصية الكاتب بينما، رغم محاولة معجب الزهراني أن يضع بين الشخصيتين مسافة ما، بجعل أحدهما يؤمن بكارل ماركس والآخر بابن حزم إلا أن هذا الفارق لم يكن حاسماً، فهناك تشابه بين أصوات الشخصيتين وتماثل في مكان النشأة ومكان الهجرة وفي رؤيتهما للحياة. الفارق يتمثل لصالح شخصية "سعيد" في تجربته السياسية فقط. الأمر الآخر يكمن في أن زوربا رجل بسيط صنع فلسفته من واقعه ومقولاته وأراؤه تمثله ، بينما شخصية سعيد تجمع بين الثقافة والأدلجة وكذلك الثراء المادي .لكن كل هذه المكتسبات تتم إزاحتها في النص، ويصبح من يهذي في النص هو الرجل الذي يراقص الحياة . مهاجر أم طالب: عندما عبرت مدام ليوتو عن الشاب بطل الرواية بتساؤلها أفلاح هو أم طالب؟ لم تكن لتبتعد عن التوصيف الدقيق كثيراً، فهذا الالتباس لا يأتي عند مدام ليوتو فقط بل عند البطل ذاته فهو لا يرى في نفسه الطالب المبتعث بل المهاجر، ومثل هذه الرؤية سمحت له بأن يستدعي ذاكرة السفر وأن يستعرض سيرة المهاجر الأول من قريته ، كما حدت به إلى أن يبجل السفر كما يبجل الرقص. كذلك فإن صفة المهاجر تمنحنا دلالة أكثر عمقاً من صورة الطالب المشغول بالدراسة ونزوات الشباب. المهاجر هنا يأخذ حلمه معه ويسكنه وطنه البديل.. يكون حميماً مع ذلك الوطن، لذا فإنه وجد في " رويان " قريته البديلة التي تتمتع بمزايا قريته الأصلية على مستوى الطبيعة غير أنها تفوقها بمزايا أخرى كالحرية والطقس الاجتماعي المفتوح. من هنا جاءت محبة المكان طاغية، فهو يقول "الحقيقة إنني أحببت هذا البيت الحجري الأنيق وتعلّقت بالأشجار كلها." أيضا هناك أمر آخر لا بد من الإشارة إليه وهو أن أبطال النص لم يتعرضوا لصدمة الحضارة ولا توجسوا من فوارق باريس مقارنة بالقرية، وأعتقد أن وراء تجاوز هذا الأمر هو أن السفر إلى تلك المدينة جاء بدافع الشغف ومن يكون محرضه الشغف يتهيأ نفسيا لما سيجده. كذلك يبدو أن أبطال النص لديهم إحساس بجفوة المكان المحلي، وعليه فقد لعبت باريس دور البديل المرهف المناسب. وعلينا أن نرصد حضور المكان الباريسي في ذاكرة أبطال الرواية على مستوى أزمنة مختلفة ، لكن الغرام هو الغرام بالمكان . ربما تلك الأمكنة لا تمسها رياح التغيير بسهولة لذا فإنّ شواهدها تظل رفيقة الذاكرة وهذا ما كان لسعيد وصاحبه في الرواية. اللغة ابنة المطر : جاءت اللغة في بساطتها معبأة بمفردات المطر والغيم والشجر والسماء والنبتات العطرية وكل المعاني المورقة بما تهبه الطبيعة. يمكننا أن نطلق على اللغة في النص صفة اللغة الخضراء، وإذا ما شعرنا بأن اللغة في النص تكتسي لون الطبيعة فإن المفردات الملوّنة بصفات المطر وتداعياته نجدها كثيفة في النص، وهذا نتاج طبيعي فبطل النص مولع بجماليات الحياة واللغة ابنة النص وهو حين يسرد فإنه يسرد وهو في عمق لحظته الصافية، تلك اللحظة الراغبة في البوح، أي في لحظته الناضجة. لذا جاءت اللغة متدفقة، بل إن هناك أمراً لافتاً في السرد، فهو يختم بعض عبارات البطل بعبارات شعبية / إيمانية مثل : ( يا وجيه الخير ،الله المستعان. يارب سترك في الدنيا والآخرة ) وغيرها. مثل هذه العبارات في تصوري تمزج بين الراوي القروي الحكيم وبين البطل المثقف المدجّج بالثقافة الفرنسية، وهي أيضاً تشد النص إلى محليته وتضعه في إطاره القروي التي يمثّل هاجس البطل. كذلك، فإن اللغة تناسب حكي الحكمة والتذكر وفلسفة الأشياء، فالمباشرة مطلب في مثل هذا النص لأنها تمنح السارد التطابق بين صوت الراوي وبين ما يرويه. إنه حين يمنح أصواتاً أخرى من القرية فرصة التحدّث باللهجة الشعبية فإن تلك الأصوات لا تحكي ولا تنطق حينها إلا بتلك الحكمة التي تصنعها تجارب الحياة. وشخصية الأب ربما هي الأبرز في مقولاته. يقول الأب "الضيف المجرب الطيب شجرة مثمرة تهزها أخف الرياح فيسقط منها أشهى الجنى. والذي لا علم عنده ولا خبر أحسن لك تقدم له ما تيسر وتتركه يأكل ويشرب وينطوي على عوده الجاف." لقد استعار الروائي في رقص، بشكل أو بآخر، تقنية عبد الرحمن منيف حين جعل أبطاله في مدن الملح يشدون وثاق النص بالحكم والمقولات القطعية الممزوجة بنكهة المكان. وبما أنّ اللغة شكلت محور حديثنا هنا، فإن سؤالاً قد يتبادر إلى الذهن عن أثر اللغة الفرنسية التي يجيدها معجب الزهراني على هذه الرواية، وعن كتابته لنصّ قد يترجم إلى تلك اللغة؟ إن الشغف بالمكان الباريسي، في تصوري، لم يكن على مستوى الحياة بل تسرّب إلى قدرة الأبطال على إتقان اللغة الفرنسية، وهناك أكثر من إشارة إلى كيفية تعلم اللغة وممن يتعلمها، غير أنّ اللغة الروائية لم تذهب بعيداً عن لغة الاعتراف التي تكتب بوضوح ومباشرة وهذا ما فعله معجب في نصه رقص. المناضل حين يسهو عن تناقضاته : لا توجد في رواية رقص امرأة تستحوذ على النص ، أو تلعب ما يمكن اعتباره نموذجاً أنثوياً يستحقّ التوقّف عنده، فنساء القرية، كالأم مثلاً أو الزوجة، هي نماذج يتم التوقف عندها عندما يريد البطل أن يستحضر تفاصيل من حياة القرية. وفي المقابل يأتي حضور نساء باريس كنساء يتم توصفيهن برؤية شرقية خالصة، تتخلل تلك الرؤية ملامسات للجانب الإنساني . لكن المفارقة تكمن في أن السارد كلما اقترب من نساء القرية تحضر عبارات التبجيل والإشادة بالصبر وبالعشق الصافي وكلما حضرت نساء باريس حضرت الغواية الأنثوية، لكن الفداحة تكمن في كون المناضل لم يتوقف عند خياناته النسائية. لم نشعر أنه وخز داخله بألمٍ ما فنزواته يرويها بافتخار الرجل الشرقي. لم نرصده موجوعاً أو متألما بل نجده يتغنى بصبر زوجته أثناء سجنه، لكنه مع الثراء ومع المقولات الفضفاضة عن النضال والإصلاح يتناسى هذا الإخلاص وينغمس في نزواته . هذا التناقض الفاضح هو تعبير عن أن النضال لا يؤخذ منه إلا ما يمنح المناضل بريق الحكي بينما يفنرض أن تكون المرأة ومواقفه منها على جميع المستويات هي التي تفضح جدية مواقفه الحياتية . بعيداً عن الانثروبولوجي : في مثل رواية ( رقص ) قد يحدث أن يتورط الكاتب في تدوين كل مكونات بيئة المكان لئلا تفوته فرصة تقديم قريته للقارىء، غير أنّ معجب الزهراني تخفف، إلى حد كبير، من هذه المسألة واكتفى بأن أخذ من القرية ما يحتاجه النص. لم يسرف الروائي في تقديم بيئة المكونات بعاداتها وتقاليدها بل قدم التفاصيل الحياتية والطقوس المعاشة في ذلك الزمن. وحتى عندما تأتي سيرة التاريخ فهو يشير إليها بحدث ما يتقاطع مع شخوص الرواية ، لم يتحول إلى باحث انثروبولوجي يرهق النص بتفاصيل الحياة سواء على مستوى الطقوس المعاشة أو مسميات الأشياء . وإذا كان قد تورط فإنما جاء تورطه في إسباغ الحالة المثالية على المكان وشخوصه. خاتمة : تلك كانت بانوراما لا تقول كل شيء عن الرواية فهي رواية تحتمل مستويات عديدة من القراءة. قد يجد فيها الرفاق وثيقة تحمل عناوين تاهت في الذاكرة بينما يمكن أن تُقرأ من طلاب مرحلة السبعينات الذين ابتعثوا في ذلك الزمن قراءة باعثة على الشجن المألوف الذي يستعاد مع أحداث الرواية . وستقرأ من الأجيال الحالية بإحساس ربما يخلو من الدهشة لأن موضوع الرواية تم طرقه سابقا .لكن "رقص" كفيلة بالتحريض على المقارنة بين ما رواه سعيد في الرواية وذلك الذي رواه هشام العابر في ثلاثية الأطياف وفؤاد الطارف في شقة الحرية . وقد تقرؤه مجموعة الضد على أنه عمل يتسم بالنزق ويدين تيار ما . لكن الأهم من تأويلات القراءة التي ستصاحب النص أن معجب الزهراني استفاد من ثرائه المعرفي واشتبك مع نصه بحميمية، لذا فإن الفارق كان ضئيلا بين ذاكرته وذاكرة أبطاله.ولو أنه أزاح الخطابات الشعاراتية في الرواية التي تكرر المكرور وتنمط صورة الأشياء لظفرنا بنص حميمي على جميع مستوياته .فالكلام في العموميات يخلق التشابه ويغيب خصوصية الأصوات، لكن مثلما كان بطله، وهو في سجنه، يستعين بالمخيلة ليتجاوز الزمان والمكان فإن معجب الزهراني فعل الشيء نفسه فاستعان بالمخيلة التي دوزنت الرقص في اتجاه ما .. ربما الرقص المؤجل دوما .